السجود في اللغة : يطلق علي الخضوع والتذلل، والشكر فيها يطلق علي الاعتراف بالمعروف المهيأ إليك ونشره والثناء علي فاعله. وسجود الشكر عند الفقهاء يطلق علي وضع الجبهة في الأرض تعظيمًا لله تعالي عند هجوم نعمة أو اندفاع نقمة.. ونتكلم هنا عن حكم سجود الشكر وعن شرط الطهارة واستقبال القبلة فيه. أولاً : حكم سجود الشكر: اختلف الفقهاء في مدي مشروعية سجود الشكر علي ثلاثة مذاهب: المذهب الأول : يري استحباب سجود الشكر عند هجوم نعمة أو اندفاع نقمة.. وهو مذهب جمهور الفقهاء قال به أبو يوسف ومحمد وعليه الفتوي عند الحنفية، وإليه ذهب ابن حبيب من المالكية وعزاه ابن القصار إلي الإمام مالك وصححه البناني وهو مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية.. وحجتهم: 1 ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه عن أبي بكرة أن النبي »صلي الله عليه وسلم« كان إذا أتاه أمر سرور أو بشر به خر ساجدًا شاكرًا لله ".. وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن عوف قال : سجد النبي، »صلي الله عليه وسلم«، فأطال السجود ثم رفع رأسه، فقال: "إن جبريل أتاني فبشرني، وقال : من صلي عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت لله شكرًا".. وأخرج البيهقي عن البراء بن عازب أن النبي، »صلي الله عليه وسلم«، بعث عليا إلي اليمن فذكر حديثًا طويلا في قصة إسلام قبيلة هَمْدان جميعًا، وفيه: فكتب علي، »رضي الله عنه«، إلي رسول الله، »صلي الله عليه وسلم«، سلامتهم، فلما قرأ رسول الله، »صلي الله عليه وسلم«، الكتاب خر ساجداً ثم رفع رأسه فقال: " السلام علي هَمْدان.. السلام علي همدان " وأخرج النسائي والطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس، أن النبي، »صلي الله عليه وسلم«، سجد وقال : »سجدها النبي داود توبة، ونسجدها شكرًا« 2 أن سجود الشكر روي عن بعض كبار الصحابة، وهم لا يفعلون ذلك إلا عن توقيف، لحسن الظن بهم.. ومن ذلك ما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي بإسناد ضعيف أن أبا بكر الصديق حين جاءه فتح اليمامة وخبر قتل مسيلمة الكذاب سَجد لله شكرا.. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي بسند فيه مقال أن عمر بن الخطاب سجد لما جاءه خبر بعض الفتوحات في عهده. المذهب الثاني : يري عدم مشروعية سجود الشكر، وأنه مكروه لا يستحب فعله، والأولي أن يقتصر علي الحمد والشكر باللسان.. وهو المنقول عن أبي حنيفة وعن الإمام مالك في المشهور.. وروي عن إبراهيم النخعي.. ونقل الطحاوي عن أبي حنيفة أنه لا يري به بأسًا.. وحجتهم: 1 ما أخرجه البخاري عن أنس ابن مالك قال: بينما رسول الله، »صلي الله عليه وسلم«، يخطب يوم الجمعة إذ جاءه رجل، فقال : يا رسول الله، هلكت المواشي وانقطعت السبل، فادع الله أن يسقينا.. فدعا، فمطرنا فما كدنا أن نصل إلي منازلنا، فمازلنا نمطر إلي الجمعة الأخري.. قال : فقام ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت وتقطعت السبل، فادع الله أن يصرفه عنا.. فقال رسول الله »صلي الله عليه وسلم«: " اللهم حوالينا ولا علينا".. قال : فلقد رأيت السحاب يتقطع يمينا وشمالا يمطرون ولا يمطر أهل المدينة ".. قالوا : فهذا رسول الله، »صلي الله عليه وسلم«، لم يسجد لتجدد نعمة المطر أولاً، ولا لدفع نقمته آخرًا.. فلو كان سجود الشكر مستحبًا لما تركه رسول الله، »صلي الله عليه وسلم«، في مثل تلك المناسبة.. وأجيب عن ذلك بأن شأن المستحب أن يفعل تارة ويترك أخري. 2 أن البشارات كانت تأتي النبي، »صلي الله عليه وسلم«، والأئمة بعده، ولم ينقل عن أحد منهم أنه سجد سجدة الشكر، فلو كانت مشروعة لما تركوها ؛ لأنهم الأحرص علي الفضائل.. وأجيب عن ذلك بأنه قد نقل عن النبي، »صلي الله عليه وسلم«، وصحابته الأخيار أنهم سجدوا للشكر، وهو أمر مشهور لا يخفي.. قال الشوكاني في نيل الأوطار: وإنكار ورود سجود الشكر عن النبي، »صلي الله عليه وسلم«، من مثل هذين الإمامين يقصد أبا حنيفة ومالك مع وروده عنه، »صلي الله عليه وسلم«، من هذه الطرق التي ذكرها ابن حجر وذكرناها من الغرائب. 3 أن سجود الشكر لم يكن من عمل أهل المدينة، فدل ذلك علي أنه غير مشروع أو أنه منسوخ.. وأجيب عن ذلك بأن الحجة في الأحاديث التي ذكرها الجمهور، ودعوي النسخ تحتاج إلي دليل ولا يوجد. 4 أن الإنسان لا يخلو في جميع أحواله من نعمة أو دفع نقمة، فلو كان السجود لذلك للزمه الحرج والمشقة، ولا معني لتخصيص بعضها بالسجود، وأجيب عن ذلك: بأن سجود الشكر سنة مستحبة وليس واجبًا حتي تدعي المشقة، ثم إن السجود للشكر إنما يكون في أحوال البلاء والشدة. المذهب الثالث : يري عدم مشروعية سجود الشكر، وأنه محرم ولا يجوز فعله، بل يجب لمن يريد الشكر أن يصلي ركعتين.. وهو قول بعض المالكية كما حكاه القرطبي والمواق.. وحجتهم: 1 عموم قوله تعالي: »وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ« ص (:24).. قالوا : فلو كان سجود الشكر مقررًا ومشروعًا لفعله داود »عليه السلام« ولكنه ركع، أي صلي ركعتين ؛ لأن الركوع اسم للصلاة.. وأجيب عن ذلك بما قاله ابن العربي المالكي عند تفسير هذه الآية بأن السجود يطلق علي الركوع والعكس ؛ لأن السجود هو الميل والركوع هو الانحناء، وأحدهما يدل علي الآخر.. كما أجيب بأن هذا شرع من قبلنا، وقد ورد في شرعنا ما ينسخه، ولو لم يكن منسوخًا فهو يدل علي صلاة الشكر ولا يمنع من سجود الشكر. ثانيًا : شرط الطهارة واستقبال القبلة في سجود الشكر : اختلف جمهور الفقهاء القائلون بمشروعية سجود الشكر في اشتراط الطهارة واستقبال القبلة وغيرها من الشروط التي لا تصح الصلاة إلا بها عند سجود الشكر، وذلك علي مذهبين في الجملة. المذهب الأول : يري أن سجود الشكر يصح بدون الشروط المعروفة في صحة الصلاة من طهارة البدن والثوب والمكان، ومن استقبال القبلة ونحوها.. وهو قول بعض المالكية كما ذكر الحطاب وأخذ به ابن جرير الطبري، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري، وبه قال ابن تيمية وابن القيم، واختاره الشوكاني والصنعاني.. وحجتهم: 1 أن اشتراط الطهارة أو غيرها من شروط صحة الصلاة لسجود الشكر يحتاج إلي دليل، ولا يوجد مع حاجة الناس إلي بيانه لو كان واجبًا.. فلا يجوز إيجاب ما لم يوجبه الشرع. 2 أن سر المعني الذي يؤتي بالسجود لأجله يزول لو تراخي حتي يتطهر. 3 أنه لم يرد في الشرع تسمية سجود الشكر صلاة حتي تشترط فيه ما نشترطه فيها، ولم يسن في سجود الشكر الاصطفاف أو تقدم إمام، كما لم يرد فيه تكبيرة الإحرام أو تسليمة التحليل، فكان اشتراط ذلك في سجود الشكر تزيدًا بغير دليل. 4 أن قياس سجود الشكر علي الصلاة بدعوي أن السجود جزء من الصلاة قياس فاسد لا يدل علي أنه صلاة، لأن القراءة والتكبير والتسبيح مما يفعل في الصلاة، ولم يقل أحد بأنه يشترط لذلك ما يشترط لصحة الصلاة. المذهب الثاني : يري أنه يشترط لصحة سجود الشكر ما يشترط لصحة الصلاة النافلة.. وهو مذهب الجمهور قال به بعض الحنفية والمالكية، وإليه ذهب الشافعية وأكثر الحنابلة وروي عن النخعي.. وحجتهم: 1 عموم ما أخرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي »صلي الله عليه وسلم«، قال : " لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول "، كما أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي، »صلي الله عليه وسلم«، قال: »لا تقبل صلاة من أحدث حتي يتوضأ".. قالوا: وسجود الشكر المقرر نوع صلاة، لأنه سجود يقصد به التقرب إلي الله تعالي، له تحريم وتحليل، فشرط له شروط صلاة النافلة، فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري وعن علي وعن عائشة أن النبي »صلي الله عليه وسلم«، قال: " مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وقد اختار المصريون مذهب جمهور الفقهاء القائلين باستحباب سجود الشكر عند هجوم نعمة أو اندفاع نقمة ليس لكونه مذهب الجمهور وإنما لكونه مشبعًا للعاطفة الإيمانية.. ولذلك فإن المصريين قد تركوا مذهب الجمهور عندما اشترطوا لصحة سجود الشكر الطهارة واستقبال القبلة وغيرها من شروط صحة صلاة النافلة، لما في تلك الشروط من مشقة وحرج علي من تفاجأ بالنعمة ولم يكن في حال طهارة أو علم باتجاه القبلة. وأخذ المصريون بالقول المخالف للجمهور الذي ذهب إليه بعض المالكية وابن جرير الطبري وابن حزم الظاهري وابن تيمية وابن القيم واختاره الشوكاني والصنعاني، القائلون بصحة سجود الشكر بدون الشروط المعروفة في صحة الصلاة، لما في هذا القول من تيسير العبادة، فضلاً عن كونه صادرًا من أهل العلم الذين يقتدي بهم، وأنه لا فضل لمذهب علي مذهب إلا بحسب قناعة الناس، ولا سواد لقول علي قول إلا بحسب اختيار الناس، لما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد، أن النبي، »صلي الله عليه وسلم«، قال له: »استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك«.