إن الأمة تتنادي بين وقت وآخر إلي الإصلاح في كل مجالات الحياة، إلي الإصلاح الاقتصادي والسياسي والتعليمي والاجتماعي والتربوي.. إلي غير ذلك من أطر الإصلاح بيد أن الإصلاح إنما يبدأ من الذات من إصلاح الفرد أولا ثم المجتمع، ثم الأمة. فإن الناظر إلي إصلاح الفرد لنفسه أو لأسرته أو للمجتمع يري ان هناك مواقع للعمل ودوائر رسمية وغير رسمية في حاجة لإصلاح القائمين فيها مسئولين وغير مسئولين، فإن الذي يجري من الشحناء والتباغض والتحاسد بين الناس يمثل أخطر أسباب الفساد في الأرض، لأن »فساد ذات البين الحالقة لا أقول تحلق الشعر بل تحلق الدين« ومن هنا كان البدء بإصلاح ذات البين من أهم أسباب الإصلاح. قال الله تعالي: »فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين« سورة الأنفال (1). وإذا أصلحنا ذات بيننا أصلح الله بيننا دنيا وآخرة. روي الحافظ أبويعلي في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلي الله عليه وسلم جالس، إذ رأيناه ضحك حتي بدت ثناياه، فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: »رجلان من أمتي حثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالي، فقال أحدهما: يارب خذ لي مظلمتي من أخي، قال الله تعالي: »اعط أخاك مظلمته«، فقال: يارب لم يبق من حسناتي شيء، قال: رب فليحمل عني من أوزاري، قال: ففاضت عينا رسول الله صلي الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: »إن ذلك اليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلي من يتحمل عنهم من أوزارهم« فقال الله تعالي للطالب: »ارفع بصرك فانظر في الجنان. فرفع رأسه فقال: يارب أري مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكلّلة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطي الثمن، قال: يارب ومن يملك ذلك؟ قال: انت تملكه، قال: ماذا يارب قال تعفو عن أخيك قال: يارب فإني قد عفوت عنه قال الله تعالي: »خذ بيدك أخيك فأدخله الجنة« ثم قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: »فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالي يصلح بين المؤمنين يوم القيامة« رواه أبويعلي والحاكم. إن أمتنا في هذه الآونة في أمس الحاجة إلي إصلاح ذات البين، فقد حدث تنازع وصراع بين بعض الدول بعضها مع بعض وبين بعض المؤسسات، وبين بعض الأفراد في الموقع الواحد ولطالما انتشرت الخصومات والعداوات والأثرة والأنانية وحب الذات، وشهوة الصعود علي أنقاض الآخرين ومحاولة نسج المكائد وافتعال الإضرار بالغير، بغية الصعود والتسلق وإقصاء البدائل إلي غير ذلك من صور البغي والتسلط وهي ظواهر تحدث تخلخلا في المجتمعات ودوائر العمل، وفي سبيل إصلاح تلك الأحوال، دعا القرآن إلي الإصلاح بين الناس »إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله«. وقد وضح لنا رسولنا صلي الله عليه وسلم كيف ان الشيطان يئس ان يعبد في الأرض ولكنه لم ييأس من التحريش بين الناس، والتحريش هو الإفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم، عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: »إن الشيطان قد يئس ان يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم« رواه مسلم. كما وضح لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ان بأس الأمة بينها شديد وشاء الله ألا يستجيب الدعوة في رفع بأس الناس بينهم حتي يسلكوا الطريق إلي الإصلاح وإلي الوفاق والتعاون ونبذ الخلافات والتنازع بينهم، ففيما رواه الإمام مسلم بسنده عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ان رسول الله صلي الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتي إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال صلي الله عليه وسلم: سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنين ومنعني واحدة. سألت ربي ان لايهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لايهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها« رواه مسلم في الفتن. وفي أحاديث أخري دعا الرسول صلي الله عليه وسلم ربه ألا يهلك الأمة بما أهلك به الأمم التي قبلها وألا يظهر عليها عدوا من غيرها فأجابه الله في هذا ولكنه لم يجبه في أن لا يلبسهم شيعا، عن خباب بن الأرت قال: رمقت رسول الله صلي الله عليه وسلم في صلاة صلاها حتي كان مع الفجر فلما سلم رسول الله صلي الله عليه وسلم من صلاته جاءه خباب فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها، قال: أجل انها صلاة رغب ورهب، سألت ربي فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لايهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها، وسألته ان لا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها، وسألته ان لا يلبسنا شيعا فمنعنيها« رواه أحمد وابن حبان. ونلاحظ ان الله تعالي أجاب رسول الله صلي الله عليه وسلم في انه لا يهلك أمته بسنة أو قحط أو غرق أو عدو من خارجها وأنه لا يجمعها علي ضلالة كما قال صلي الله عليه وسلم: »إن الله وعدني في أمتي وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة ولا يستأصلهم عدو ولا يجمعهم علي ضلالة« رواه الطبراني. ولكن الدعوة التي لم يجبها الله هي: ما أخبر عنه الرسول صلي الله عليه وسلم في قوله: ».. وسألته ان لا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها« رواه الطبراني والبزار. ولحديث هذه الدعوات روايات كثيرة وتعدد في القصة وتعددت الدعوات وقد أفادت حفظه للأمة من القحط والعدو، والغرق والرجم والخسف ومما كان يؤاخذ به الأمم السابقة. ولكن الله تعالي لم يجب دعوته في »أن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض« وذلك من أجل أن تقوم بما دعا القرآن الكريم إليه وبما حثت السنة النبوية عليه حيث حذر القرآن من التنازع »ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين« سورة الانفال (64). ونهي عن التفرق والاختلاف »ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم« سورة آل عمران (501). وأمر الله بالاعتصام بحبل الله »واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا« سورة آل عمران (301). ونهي الرسول صلي الله عليه وسلم عن التنازع والفرقة التي تؤدي إلي قتل بعضهم لبعض ورجوعهم لما كان عليه أهل الجاهلية الأولي حيث قال: »لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض« رواه البخاري ومسلم. فتري ان الإسلام كتابا وسنة قد حدد مكمن الخطر وأساس الداء، ووصف العلاج والدواء وحث الناس علي ما يجب عليهم تجاه هذه الظاهرة الخطيرة وعلاجها في أيديهم وفي اختيارهم وليسوا مكرهين بالنسبة للبعد عن التنازع في توجيهات الإسلام ما يفيد ان اهلاك الأمة بالقحط أو الغرق أو عدو أو نحو ذلك ليس بأيديهم ولا اختيار لهم فيه أما ان يختلفوا أو يتناحروا ويذيق بعضهم بأس بعض فهذا في أيديهم ان يبتعدوا عنه وأن يسيروا علي الجادة وأن يتوحدوا. ونلاحظ ان ما يصيب بعض امتنا الآن من هلاك هو بسبب التنازع والفرقة، ومن أجل ذلك كان أساس منهج الإصلاح للأمة يتركز في إصلاح ذات البين، وفي إصلاح الأمة من داخلها وتنقية الأجواء وتضميد الجراح وتوحيد الصف وجمع الكلمة. فما جري من الفصائل في الأرض المحتلة من تنازع وما جري في البلاد المجاورة من الخلافات كان هو السبب فيما حدث لها فنسأل الله أن يجمع الأمة وأن يهديها إلي وحدة الصف. وفيما رواه داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه ان رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: »ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلي، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة«.