شاغبته يوما بالسؤال عن جدوي احتماله مرارات السجن السياسي المتكرر في حياته، نتيجة لكتاباته التنويرية الناقدة لممارسات الحكم في الأربعينيات، لحظتها حكي لي شيخي الراحل الجليل د.محمد مندور، حكاية رواها أحد الفلاسفة عن أن أحد المصابين بمرض جلدي معد، يحتم انعزاله عن الآخرين، قد اكتشف مرهما يخفي قروح المرض من الجسد الخارجي للمريض، وينقله إلي داخل جسده، فلا يراها أحد، ومع ذلك لا يفقد المرض فعالية انتقال عدواه إلي الآخرين، وعندما علم أحد رفاقه من المصابين بتأثير المرهم المكتشف، اسرع باستخدامه، وما إن اختفت القروح من خارج جسده، حتي بادر بالانضمام إلي الأصحاء من البشر، مختلطا بهم بمرضه المستتر، مبتهجا بالثأر منهم بنقل العدوي إليهم خفية، لكن صاحب الاكتشاف رفض سلوك رفيقه، واختار نفيا طوعيا، انقاذا للآخرين من العدوي حماية لهم.. نبهني شيخي ان الشخصيتين في هذه الحكاية تمثلان وجهين متضادين لنوعية أنظمة الحكم، إذ إن شخصية المكتشف الذي رفض سلوك رفيقه، واختار نفيا طوعيا، قد حكم سلوكه وعيه بالمسئولية العامة تجاه حماية مجتمعه، أما كارثة أي مجتمع فتتجلي عندما يصبح نظامه السياسي نموذجا لذلك الشخص المدمر المستتر، الذي يخرب حياة المواطنين باستلابهم استحقاقاتهم في الحياة، وحرمانهم حق السلامة والحماية، نتيجة استسلامه المخزي لاهوائه. كان تفسير شيخي للحكاية، يؤكد ضرورة ممارسة الكتابة واستمرارها في تنوير الرأي العام، ثم انهي حديثه بالاجابة عن سؤالي، التي كان مفادها أن الاستشهاد لا يقصي المواطن من الدفاع عن استقلال وطنه ضد اعدائه، وكذلك السجن لن يحرمه إبداء رأيه حول المرفوض، والمقبول، فالرأي هو اللبنة الأولي للمعرفة التي تشحذ الوعي، وتضعف من السطو علي قلوب الناس وعقولهم، صحيح انني تعلمت من درس شيخي ان حماية الآخر مرحلة في تطور الإنسان وتحضره، وأن الوعي بالمسئولية العامة، لابد أن تمارس بحرية، وانتباه واع وإرادي، في ظل إطار عقلاني لتوجهات سلوك تحكمها قيم يجري ادراكها علي أنها مقدسة، لكن الصحيح كذلك انني ادركت ان المجتمع الصامت الذي لا تنشط فيه الآراء وتتعدد، هو مجتمع لا ينتج معرفة، ولا يمتلك مشروعا لغده، بل يعيد إنتاج شروط ماضيه وراهنه. إن الحكاية التي رواها شيخي، تسجل انتصارا لنموذج من العقلانية، يؤسس للعلاقات الايجابية بين البشر، تجلي في موقف المريض المكتشف المرهم، الذي رفض ممارسة العدوان علي حقوق أفراد مجتمعه في الحياة الآمنة، كما تتضمن ايضا نموذجا لسلوك عدواني، تبدي في تضليل الشخصية الأخري حين غطت قروحها، وراحت تمارس بالخداع العنف المستتر، لايقاع كارثة بالمجتمع، بالعدوان علي حقوقه، بنشر وباء يجرده من امكانية استمراره، تري هل يعني ذلك أن البشر في المجتمعات يقعون تحت طائلة قوي متناقضة، قوي كابحة تسوسهم إلي التحضر، وممارسة السلوك المسئول، انطلاقا من القناعة بمنظومة قيم يحرصون عليها، وعلي الجانب الآخر، هناك قوي جامحة تخرق القيم كافة، وتدفع نحو العنف المدمر والمخرب، الذي يقوض أمان المجتمع، لاشك أن ذلك يعني أن الإنسان يقع تحت دائرة التأثير الذاتي والخارجي، وفي ضوء وجهة نظر شيخي الجليل، لابد إذن من التحصين بمواصلة ممارسلة التنوير الذي يرفع عن الناس الوهن الفكري والأخلاقي، ويعزز الوعي والاحساس بالمسئولية العامة في مواجهة أي تحريض يستقطب الناس نحو الجموح، ولعل احداث التاسع من سبتمبر التي تبرأ منها الثوار تعد نموذجا لجموح اصراري مبرمج، بتوسيع مساحات العنف المفتوح ودرجاته، والحض علي المجابهات بمجازفات غير محسوبة، حتي يتعذر ضبط هذا العنف إلا بعنف أقوي يواجهه، فيشكل ذلك استمرار دوامة العنف والفوضي، وهو ما يؤكد أن هذه الممارسات خضعت لخطاب تحريضي، يحول ممارسات العنف والاعتداء إلي شكل مقبول، بتغيب الثمن الاجتماعي لذلك العنف، حيث يشتغل خطاب التحريض علي ارباك الناس، استنفارا للاحباط والغضب، وافتقاد الثقة بغسل الأدمغة، وتفخيخها، بشتي الادعاءات للالتفاف علي الحقائق والانقلاب عليها. ان الوطن يواجه تحديات خطيرة، تفرض تضافر جهود المؤسسات كافة، ونخب الثوار، والأحزاب، والمجتمع المدني لانتاج خطاب تنويري كاشف، يقوي الوفاق الفكري والاجتماعي في مناهضة استباحة العنف والانفلات، وان توازيه آليات إعادة بناء الثقة، وتفعيل الانضباط المختل، دعما لسلوك الارتباط بالمسئولية العامة بوصفها الرافعة الحقيقة للتغيير، وهي القضية المشتركة بيننا جميعا.