كتابات الروائي خيري شلبي لها رائحة الأماكن والبشر المرسومة بدقة فوق سطور رواياته ، استطاع ببراعة أن يرسم بقلمه خبايا النفس البشرية التي نراها في ملامح أبطاله وكأنه فنان تشكيلي لفن البور تريه الروائي، كان من أوائل من كتبوا ما يسمي بالواقعية السحرية، حيث يصل الواقع إلي مستوي الأسطورة، وتتحول الأسطورة إلي مستوي الواقع لكن يظل اقوي ما يميز كاتبنا الكبير رسم شخصياته في لوحات إبداعيه واحد وعشرين "بورتريه"، جمعها الروائي خيري شلبي في كتابه "عناقيد النور"، والصادر مؤخرًا عن دار "العين" ، راصدًا من خلاله فترات متباعدة تتناول شخصيات عدة.. ويقول الفنان التشكيلي حسين بيكار عن الكتاب: "صححت لي - (يقصد خيري شلبي) - مفهوماً خاطئاً كان غائراً في أعماقي حتي النخاع، وهو أن البورتريه لا يتحقق إلا رسماً أو نحتاً، ولكنك نسفت لي هذا المعتقد الخاطئ في لحظة عندما رأيتك ترسم بالكلمة وكأنك ممسك بريشة بارعة تنقل أدق التفاصيل التشريحية والنفسية، وتغوص بها في أعمق الأعماق لتبرز أدق المشاعر التي يحتكرها الباطن ويعتبرها من ممتلكاته الخاصة". وأول من يطالع قارئ بورتريهات شلبي، هو عالم الجيولوجيا د. رشدي سعيد، الذي عاني التغريب عن جميع جوائز وحفلات التكريم في بلده، نظرًا إلي أن الفائزين - دائما - ليسوا هم الفرسان.. ويصف المؤلف وجه سعيد والذي يشبه دلتا النيل؛ فالقاهرة علي ذقنه نقطة التقاء فرعي النهر علي هيئة فكين ناعمين، والحنك الواسع يعكس روح الشغف بالحياة. ويروي شلبي موقفًا للدكتور رشدي، حين زار المتحف الإنجليزي لأول مرة؛ فلاحظ أن سيدة بريطانية تحملق فيه بذهول، ثم تحملق في تمثال فرعوني معروض أمامها؛ لتسأله في النهاية عن وطنه الأصلي، وتزول عنها دهشتها حين تعلم أنه مصري. ومن المواقف أيضًا أنه أثناء أزمة سبتمبر الساداتية الشهيرة التي وضعته ضمن المعتقلين، فيما هو في أمريكا يعيد البحث عن نفسه، إذا بالخبر يحاصره في المنفي حصاراً قاسياً، موضحًا كيف اضطر رشدي لأن يبيع مكتبته وهي أثمن شيء في حياته لفريق بحث ألماني لكي يسدد نفقات معيشته باهظة التكاليف. أما المعماري العالمي حسن فتحي، فيصفه شلبي بقوله: "حريف كقرن الفلفل، سلس كانسياب الماء، عريق كصخور المقطم، غضوب كقط بري، فانوس عتيق قديم لكنه مضاء بالكهرباء"، ويروي سيرة فتحي الذاتية، ساردًا من خلالها كيف رفض النموذج الغربي في الهندسة المعمارية، ليس من قبيل التعصب لثقافته القومية، بل لرفضه فكرة: "أن المعمار جزء لا يتجزأ من البيئة"، واقتناعه بأن العمارة الأوروبية لا تتناسب مع طبيعة البيئة المحلية، فضلاً عن أنها غير إنسانية بالمرة. وينقل شلبي رأي فتحي في "العمارة الأوروبية" التي انتشرت في البلاد العربية، قائلا: إن ذلك ليس دليلاً علي ملاءمتها لنا، بقدر ما هو دليل علي انسحاقنا أمام النموذج الغربي في الثقافة بوجه عام، رغم أن العمارة العربية الإسلامية المنبثقة من ثقافتنا القومية ليست تكلفنا فوق ما نطيق. وأفرد شلبي عشر صفحات، ليرسم فيها بورتريها لشخص جرجي زيدان، والتي لم يغفل خلالها أن يعبر عن إعجابه بفكر زيدان المستنير، في مجابهة الأطماع الأجنبية والنوايا المبيتة ضد العرب؛ حيث أسس مع ولديه إميل وشكري "دار الهلال" بفروعها: المجلة والروايات وكتاب الهلال؛ لتخدم فن الرواية، وتكرس له في الثقافة العربية الحديثة، كفن له تأثير علي جماهير القراء يمكن عن طريقه تحقيق ما نصبو إليه من حضارة وتقدم، لذلك فزيدان - برأي شلبي - يعد مؤسس الرواية التاريخية بمعناها الأدبي الحديث. "الوجداني جبران".. هذا ما أطلقه شلبي علي "جبران خليل جبران"، والذي يقول عنه: إنه عبقرية فذة قلما تكررت في زمن أمة من الأمم".. مركزًا علي علاقة جبران بمي زيادة، واللذان يجد فيهما تشابها نفسيا واحدا، فكلاهما رومانسي حتي النخاع، وينطوي علي نفس شديدة الحساسية تستجيب لكل الفنون، ولشدة ائتلاف روحيهما كان جبران هو الوحيد الذي خاطب مي كأنثي، وعرف كيف يدخل إلي قلبها، وبموت جبران في سن مبكرة اهتز كيان مي وفقدت توازنها النفسي تماما. أما الأسطورة، سعد زغلول قائد ثورة 1919 فيصفه المؤلف بأن مقومات الزعامة ولدت معه، فقد كان خياله خصباً، وثقافته أكثر عمقا واتساعاً، ووجدانه مفتوح علي الوجدان الشعبي العام؛ فاحتل مكانة كبيرة بقلوب الجماهير العريضة، خاصة بعدما نجح في تأليف شتات الرأي العام إلي ما يشبه العائلة الواحدة. ويختتم شلبي بورتريه زغلول - تعليقًا علي كتاباته وخطاباته - بقوله: إن رجلا تزدحم حياته بجلائل الأمور، ورغم ذلك يجد وقتاً ليكتب مثل هذا الكلام الحميم، يكون رجلاً عظيماً بمعني الكلمة لأنه بخلوه بمذكراته كل يوم يعني أنه في مواجهة يومية مع النفس، ومحاكمة لها حقاً".