"مدينة الغرباء " أحدث أعمال الكاتب الكبير جمال الغيطاني ، صدرت عن نهضة مصر و التي يصحبنا فيها إلي مدينة نيويورك خلال رحلة ذات بعد إنساني يحمل لنا حقائب من الدهشة والانبهار لجوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية ، ويقدم رؤية عميقة ومختلفة للمجتمع الأمريكي من خلال مجموعة من المواقف والمشاهدات الشخصية بأسلوب أدبي جذاب لا يشعرنا طوال رحلته الإبداعية بأي إحساس بالملل أو الزهق. من أول لحظة في سطور الكتاب يأخذنا الكاتب الكبير إلي عالمه الخاص ، ويسافر بنا عبر مشاعره وحنينه إلي لقاء ابنه الوحيد محمد الذي يعمل في الأممالمتحدة بمدينة نيويورك وخلال هذه الرحلة نصعد ونهبط في مطارات حياة مبدعنا الكبير مابين لحظات اشتياق وأيام من لقاء الابن التفاصيل الصغيرة للحياة بعيدا عن الوطن مصر ويبدو ذلك في كلمات قصيرة أو ملاحظات لا يلحظها أحد سوي من عاش نفس تجربة الكاتب حين يقول في سطور كتابه : في الترحال لا أغير التوقيت القاهري ، أتطلع إلي الساعة فأضيف أو أنقص بفكري ، لكنني لم أبدل التوقيت قط سواء بلغت أقصي الشرق أو أقصي الغرب بالنسبة لمصر. ويتنقل بنا الكاتب بأسلوبه السلس المفعم بالإحساس والمشاعر الجياشة لافتقاده لابنه الوحيد حين يختار بكامل إرادته العمل بعيدا عن الوطن الام بحثا عن حياة أفضل ، ويروي كاتبنا من خلال يوميات رحلته إلي مدينة نيويورك تفاصيل الحياة مابين الأماكن والأشخاص وذكرياته لسفريات أخري مغايرا في المكان ومتشابهة في المشاعر وبين تلك السطور يكشف لنا الكاتب بدون تكلف عن ثقافته الواسعة وقراءته المتعددة التي يستشهد بها في مواقف مشابهة دون أن تشعر أنها دخيلة علي السياق العام وكأنها منسوجة بضفائر مع الأحداث التي يعيشها الكاتب عبر رحلته الممتعة .. عندما يقول : في الطريق الي العمارة التي يقيم فيها محمد تذكرت الفنان الأمريكي الذي أحب أعماله كثيرا ادوارد هوبر رسم جسور نيويورك وشوارعها وبعض واجهات مبانيها بأسلوبه الفني الرفيع ، نثرا كان او شعرا او لونا يلتقط الجوهر، منه نتعرف علي الاشياء والاماكن والبشر ، عندما زرت روسيا أول مرة عام ستة وثمانين من القرن الماضي لم تكن الوجوه غريبة عني طالعت قسماتها في روايات دوستويفسكي وقصص تشيخوف وأعمال تولستوي وجوركي ، عندما زرت يوغسلافيا خصيصا لأري الجسر الشهير الذي صاغ ايفواندريتش روايته العظيمة حوله جسر علي نهر درينا لم أشعر أن الطبيعة غريبة عني ولا البشر،كذلك لوحات هوبر التي أمسك فيها بجوهر المدينة وحالة الوحدة الإنسانية في الحياة الأمريكية . ونعيش مع الغيطاني أجواء مدينة نيويورك وخاصة تفاصيل مبني الأممالمتحدة وكأننا علي موعد هناك مع كل الوجوه المصرية التي مثلت مصر هناك وغيرها من الوجوه الأخري في العالم حتي يشعرك بأنك في منطقة أممية علي حد تعبيره . مابين الخاص والعام يروي الغيطاني يوميات رحلته إلي ابنه الساكن في مدينة نيويورك علي متن طائرة مصر للطيران نجوب معه أجواء من حياته الخاصة ومخاوفه وانتقالاته بين مدن وأماكن أخري مابين الماضي والحاضر تتشابك الأحداث لتأتي تارة علي شكل أدب رحلات من طراز أدبي رفيع اللغة المحملة بالمشاعر الإنسانية البسيطة التي تقربك من كاتبها وكأنه يحادثك وحدك أو يشعرك أحيانا بأنك جالس إلي جواره علي متن الطائرة المتجهة الي نيويورك . وفي سطور الكتاب الشيق يروي الغيطاني يوميات كاتب في مدينة الغرباء ملخصا فلسفته في الحياة حين يقول : امشي أمشي تعلمت أن أفضل طريقة لاكتشاف مدينة أن اقطعها سيرا. وفي الحنين للوطن يقول : عندما نصغي لموسيقانا بعيدا عن الوطن تكون الموسيقي من المحفزات المستحضرة للوطن نفسه. ويقول : في البعد يكون تأثير الأحداث أشق وأوعر، هذا حال أعرفه منذ فترة حرب الاستنزاف فعندما كنت أتواجد في الجبهة أصبح أكثر هدوءا مما أنا عليه في القاهرة أو في أي مكان آخر . ويتنقل بنا الغيطاني بين شوارع وميادين نيويورك حاملا ذكرياته وحنينه و ثقافته الواسعة التي استمدها من قراءاته المتعددة ويكشفها لنا في مواقف كثيرة بين سطور كتابه الذي يحتار المرء في وصفه هل أدب رحلات أم أدب في السيرة الذاتية ، أيا كان تصنيف الكتاب فهو كتاب ممتع لأنه يأخذنا ببساطة إلي عوالم وأجواء ومشاعر مختلفة لا تصيبنا بالملل وإنما قد تزيد علينا الحنين إلي كل الأماكن التي نحبها ونفضلها ونحلم بالزيارة إليها سواء إلي نيويورك أو مدن أخري .