الدولة هي التجسيد القانوني للشعب بما له من إقليم وسيادة، ولا تجتمع إرادة الشعب علي ضلال أبدا، لذلك فالدولة تمثل كل مظاهر الجمال والمثالية، ولا يتصور أن يصدر عنها الخطأ والتجاوز، فلابد أن تكشف كل تصرفاتها انها القدوة الحسنة، ومما يتعارض مع هذه القدوة الحسنة أن تظهر الدولة في موقف المماطل في أداء الحقوق.. ومن هنا، ظهرت نظرية الدفاع الوقائي عن الدولة، التي تهدف إلي إنهاء منازعات الدولة قبل مرحلة التقاضي بشأنها أمام القضاء.. فيكون علي سلطة الدفاع واجب التحرك التلقائي للكشف عن مخالفات الحكام للقانون، وتعديهم علي حقوق الأفراد أو علي حقوق وأموال الدولة، كما يكون لها تلقي تقارير أجهزة الرقابة عن المخالفات، وبدون شكوي من المتضرر تأمر بعد الفحص برد الحق لصاحبه، ومن باب أولي، يكون علي هذه السلطة بحث شكاوي الأفراد ضد الحكام، وتقرر التطبيق السليم للقانون علي المسألة. كل ذلك يتم في مرحلة الدفاع الوقائي، أي قبل عقد خصومة قضائية بشأنها أمام القضاء. فمثلا لو عبرت الدولة عن إرادتها في صورة قانون للضمان الاجتماعي، ونص هذا القانون علي إلزام الحكومة ان تصرف لكل من يثبت استحقاقه للمساعدة مائة جنيه شهريا، فقامت الحكومة بصرف تسعين جنيها فقط حتي ولو لم يسرق الموظف المختص الفرق، ووفره لخزانة الدولة تكون الحكومة قد خالفت إرادة الدولة، وألحقت المخالفة بالدولة ضررا أدبيا، يستوجب علاجه صدور قرار عند اكتشاف المخالفة من سلطة الدفاع، ومن تلقاء نفسها، بصرف الفروق فورا للمستحق. وواضح أن هذه الصورة لأداء الحقوق تختلف عن الصورة المريضة السائدة اليوم، فكأن الخصومة القضائية في نظر هذا الفكر المريض صارت عنصرا من عناصر الأداء بحيث لا يصح الأداء إلا إذا خاض الفرد بحقه كل درجات التقاضي، فهم لا يتصورون رقي فكرة ان يصدر قرار أداء الحق طواعية من أحد أطراف النزاع، ويرون أن قرار أداء الحقوق لابد أن يصدر عن شخص ثالث مغاير هو قاضي أو محكم أو موفق. فهو تصور مريض لإحضاره فيه. بل فيه تجاهل لطبيعة الدولة التي توجب علي كل سلطات الدولة أن تحفظ لها خاصية الرفعة والترفع عن النقائض، خاصة نقيصة المماطلة والتسويف. ونظرا لطبيعة الدولة، من عدم وجود كيان ملموس لها في العالم المادي، فإن تسيير حركتها اليومية يتم عن طريق سلطات من عنصر بشري، يقال عنها سلطات تأسيسية تستمد وجودها وصلاحياتها من الدستور مباشرة، ومنها سلطة الدفاع القضائي »هيئة قضايا الدولة« التي تصدر قرارات الدفاع الوقائي فتكون صادرة عن الدولة ذاتها، ولو طبقنا نظرية الدفاع الوقائي لاختفت العديد من القضايا التي تظهر فيها الدولة في صورة المماطل في أداء الحقوق، وهو مظهر غير لائق بالدولة، وسببه تغييب صلاحية الدفاع الوقائي عن هيئة قضايا الدولة، فمثلا في قضايا مقابل رصيد الاجازات، وقضايا بدل العدوي، وبدل طبيعة العمل، وغير ذلك من الحقوق التي بات حق خصم الدولة فيها واضحا، كان يكفي ان يتقدم الفرد فيها بطلب لهيئة قضايا الدولة، وعلي الهيئة بعد مراجعة جهة الإدارة والتأكد من أحقية المواطن أن تأمر الإدارة بأداء الحق فوراً، دون أن تكلف الفرد مشقة ومغبة وتكاليف المخاصمة القضائية، فيحصل علي حقه بقرار فوري غير قابل للطعن من الدولة، لأنه صادر طواعية عن الدولة ذاتها، فليس لها بعد ذلك الرجوع، فيه، أما الفرد فيكون له أن يطعن علي القرار أمام القضاء ان رآه غير محقق لمصالحه المشروعة. هذا هو ما جنته علي الشعب يد المدرسة المعادية لهيئة قضايا الدولة، والتي طالبت وتطالب بتحجيم صلاحياتها في نطاق ما وصفوه بهتانا بالوكالة عن الحكومة، مما ترتب عليه حجب صلاحية الدفاع الوقائي عن الهيئة، فحرم جمهور المتعاملين مع الدولة من تبسيط حصولهم علي حقوقهم، ولا ندري كيف يسوغ لعاقل وصف الهيئة بالوكالة عن الحكام في حين كشفت الثورة عن أن الحكام أنفسهم هم الذين سرقوا أموال الدولة، فلا يصلح لحماية الدولة ضدهم إلا سلطة لا تقل علوا وقوة عنهم. نعتقد أنه قد آن الأوان أن يسند للهيئة دفاع وقائي فاعل، يحفظ للدولة حقها في الترفع عن المماطلة، وييسر لها سبل أداء أو استرداد الحقوق والأموال.