ذكرت في مقالي السابق أن الظروف سهلت لي التواجد في مبني البنتاجون، أو وزارة الدفاع الأمريكية، لعدة أيام متتالية، للتعرف علي أحد الأنظمة المعمول بها هناك، تمهيداً لنقل ذلك النظام، الأمريكي الصنع، إلي وزارة الدفاع المصرية، وقواتنا المسلحة. وذكرت، كيف أتاحت لي، هذه الزيارة، التعرف علي معلومات وحقائق عديدة، من داخل مبني البنتاجون. ولقد كان أكثر ما أثار انتباهي داخل ذلك المبني الحصين، هو مركز المعلومات به، Information »enter. والحقيقة أن مراكز المعلومات أحد المكونات الرئيسية للنظم العسكرية العادية، إلا أن مركز معلومات البنتاجون كان قد اعتمد، إلي حد كبير، علي وسائل التكنولوجيا الحديثة، وهو ما يرجع الفضل في إدخالها لوزارة الدفاع، لوزير الدفاع الأمريكي، في بداية الستينات، روبرت ماكنمارا، عندما تبني ما يعرف بنظام بحوث العمليات، باستخدام الحاسبات الآلية، للمعاونة في اتخاذ القرار، عن طريق إتاحة البدائل لمتخذ القرار. وتقوم فكرة مركز البحوث والمعلومات علي أن المعلومات هي الأساس في اتخاذ أية قرارات، علي مختلف المستويات؛ فإن كانت المعلومات صحيحة ... صح القرار. ومن هنا كان التركيز، في البداية، علي جمع البيانات، لتقديمها إلي قسم التحليلات، تمهيداً لعرضها علي متخذ القرار. وغالباً ما تقدم مجموعة التحليلات عدة بدائل، مرفقاً به دراسة توضيحية للمميزات والعيوب لكل بديل علي حدة، مما يسهل عملية اتخاذ القرار، بترجيح كفة المميزات، في ظل باقي المعطيات. وبالنظر إلي تسلسل الأحداث والإجراءات، فإن التركيز يكون علي بنك المعلومات ... وفوجئت أن بنك المعلومات بالبنتاجون الأمريكي لا يعتمد علي المعلومات العسكرية فحسب، وإنما يستقي معلوماته من مختلف جوانب الحياة؛ الاقتصادية، والمالية، والصناعية، والزراعية، والاجتماعية، والثقافية ... إلخ. كما يعتمد بنك المعلومات علي مختلف الآراء والتحليلات، التي تصدرها مراكز البحوث، ومراكز الدراسات الاستراتيجية، ومجموعات الفكر والرأي، مع تقييم اتجاهاتها. ولقد تم تقسيم بنك المعلومات إلي مجموعات من الدول؛ فهناك مجموعة من الدول الأوروبية، ومجموعة دول الشرق الأقصي، ومجموعة دول الشرق الأوسط ... التي كانت مصر من ضمنها. وكانت المجموعة المسئولة عن الملف المصري، في بنك معلومات البنتاجون، هم ثلاثة أفراد، يقومون بهذا العمل علي "ديسك مصر"، لمدة من عشرة إلي خمسة عشر عاماً. وقد تم تقسيم الملف المصري إلي عدة محاور، أولها المحور العسكري، يليه المحور الاقتصادي، ثم المحور البشري، ثم المحور الاجتماعي، وأخيراً المحور الثقافي، والذي أُخبرت بأن مصر هي الدولة الوحيدة في المنطقة، التي يُخصص لها محور ثقافي. ثم في النهاية التحليلات والدراسات التي تناولت مصر بكل أبعادها سواء كانت، هذه الدراسات والأبحاث، صادرة عن جهات مصرية أو أجنبية، ممن يتولون تحليل الموقف المصري. والأهم من ذلك إنني وجدت العاملين، علي الملف المصري، من المدنيين، حيث إن الضباط، عادة، ما يتنقلون من مكان لآخر، أما المدنيون فيتمتعون باستقرار نسبي، وهو ما يحتاجه مركز المعلومات. المفاجأة أن هذا الطاقم، الذي يعمل علي الملف المصري، يعلم كل كبيرة وصغيرة عن مصر في مختلف الاتجاهات سواء العسكرية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، ويعيها عن ظهر قلب ... حتي إنني قلت لنفسي يومها، إن وزراء التخطيط المصريين، لا يحفظون بذاكراتهم كل تلك الأرقام والبيانات عن مصر، مثلما يفعل هؤلاء الثلاثة، ويقتضي عملهم زيارة لمصر، سنوياً، لمطابقة دراساتهم وتحليلاتهم النظرية مع الوقائع في مصر. واتضح أن هذه المجموعة مُكلفة بمتابعة ثلاث دول أخري، ولكنهم أقل أهمية عن مصر، التي يعتبرها البنتاجون أقوي دولة في منطقة الشرق الاوسط، وهي تركيا وإيران وإسرائيل. ولقد التقيت فريق العمل المعني بمصر، وتناقشنا بشأن تحديث المعلومات، فعلمت أن أقل تحديث يتم في المجال العسكري، أما التحديث الأهم فيتم في المجالين الاقتصادي، والاجتماعي ... وهذا عموما الشكل العام لكل الدول، وليس مصر فقط. ولا يقتصر دورهم علي أعمال جمع المعلومات، وتحديثها فحسب، وإنما يقومون بتحليلها، باستخدام أحدث الأنظمة التكنولوجية، التي تتيح إمكانية عقد المقارنات بين الأنظمة المختلفة داخل الدول، مع تحويل الأرقام إلي رسوم بيانية، لتسهيل عملية المقارنة بين فترات زمنية مختلفة. وعلمت أن مبرمجي الحسابات الآلية يعملون باستمرار علي استحداث أنظمة جديدة لتلبية متطلبات صناع القرار، باستنباط رؤي مستقبلية، من خلال دراسة، وتحليل سلوك البيانات، في السنوات أو الشهور السابقة، بما يحقق أكبر استفادة لمتخذ القرار. كان أهم الصعاب التي ذكرها العاملون في هذا النظام، هو تضارب الأرقام والبيانات التي يحصلون عليها، إذ توافيهم بعض المصادر بمعلومات قديمة، وغير محدثة .. أو غير دقيقة، مما يحدث ارتباكاً في مخرجات النظام الإلكتروني المعمول به، مما دفعهم لاستحداث أنظمة أخري تعمل علي تنقيح البيانات ومطابقاتها. كما ظهر ضرورة وجود أجهزة دعم، Backup، تعمل بالتوازي لتوفير احتياطيات وبدائل، حال سقوط أي من تلك الأنظمة، بما يضمن عدم تأثر عملية التحليل. وأخيراً يتم حماية كل تلك النظم الإلكترونية، ذات السرية العالية، بنظم تأمين حديثة، Security Systems، ضد أي محاولة اختراق، مما يجيدها الكثيرون، سواء الدول أو الأفراد، برغم من أنظمة الحوائط العازلة، Fire Walls، التي تعمل بها كافة الحاسبات الآلية. كان يوماً جميلاً، وممتعاً، ذلك الذي قضيته داخل مبني البنتاجون، أتابع كل ما هو متاح عن عن مصر من معلومات وبيانات، في ظل التطور التكنولوجي المعمول به في وزارة الدفاع الأمريكية، بدءاً من أحدث بيانات التعداد، مروراً بوسائل النقل والاتصالات، إلي أدق تفاصيل الموازنة المصرية، أما من الناحية العسكرية، فلقد أذهلتني الدقة المتناهية للمعلومات والبيانات الموجودة في ذلك النظام. أما سعادتي الحقيقية، فكانت بما سمعته من العاملين علي ذلك الاتجاه المصري، من شعورهم بأنهم الأوفر حظاً من باقي زملائهم العاملين، في مركز معلومات البنتاجون، ممن يتابعون دول أخري، نظراً لأهمية دولة عظيمة مثل مصر.