أحد أخطر المشاكل التي تواجهها مصر الآن، هي كثرة أصحاب الايدي المرتعشة من المسئولين، الذين يؤثرون السير في سكة السلامة، في ظل حالة من التخبط التي تسود بعض قطاعات الجهاز التنفيذي، بسبب كثرة الشكاوي والبلاغات بالفساد والاتهامات المرسلة، بالاضافة للتناقض الشديد والواضح بين القوانين. فلم يعد هناك أدني شك في أن إزالة الثغرات في القوانين تمثل أول بداية حقيقية لمواجهة الفساد والمفسدين، والذي لم يكن أحد يتوقع ان يكون بهذا الحجم الضخم. غير ان المواجهة يجب ألا تقتصر فقط علي الملاحقة القانونية، أو ما يقال عن استرداد بعض الأموال المنهوبة دون التوسع في مواجهة الأسباب التي أوجدت الفساد، ومهدت له التربة الصالحة. فرغم وجود جهات كثيرة للرقابة إلا أن استشراء ظاهرة الفساد يؤكد وجود خلل ما في الآليات والقوانين واللوائح المنظمة للعمل التنفيذي والتي أدي تعددها إلي وجود ثغرات كبيرة يتسلل منها الفساد ويترعرع. وهنا نجد أنفسنا مطالبين بضرورة إعادة النظر في البيئة التشريعية وجميع القوانين، التي تحمل مئات المتناقضات، والتي ساهمت لحدود كبيرة في انتشار الظاهرة، وصعوبة إحكام السيطرة عليها. ورغم تعدد مظاهر الفساد إلا أن عملية بيع الأراضي والاستفادة الكبيرة بفروق أسعارها، تكاد تكون هي العنصر المشترك الذي بدأ منه الفساد أو انتهي إليه.. السبب الأول والرئيسي هو تعدد القوانين والهيئات والأجهزة المسئولة عن أراضي الدولة، فهناك هيئات مسئولة عن الأراضي الصناعية، وأخري لأراضي المشروعات السياحية أو الزراعية، وغيرها من استخدامات الأراضي. ومع طبيعة الاستخدام تتعدد الجهات المشرفة، والتي كان من المفروض أن تراقب عن كثب الالتزام بالضوابط والقوانين، غير أن الثغرات التي تحملها تلك القوانين أتاحت الفرصة لضعاف النفوس للتسلل منها. وأعتقد ان الحكومة مطالبة بسرعة غربلة هذه القوانين، وإزالة التناقضات بينها، ليكون هناك قانون واحد لاستخدام أراضي الدولة، فليس معقولا ولا مقبولا أن يستمر التعارض الكبير الموجود في قوانين التنمية العمرانية والمدن الجديدة، وقوانين المناقصات والمزايدات والمناطق الحرة، والتي مثلت فرصة سانحة للاستيلاء علي أراضي الدولة، وهذا التضارب ينطبق أيضا في مجالات أخري عديدة. ومثال آخر لهذا التضارب الواضح في القوانين، وهو البناء علي الأراضي الزراعية، والذي تحدده وتضع ضوابطه سلسلة من القوانين المتعارضة، بعضها يعطي الحق في البناء بمساحات محددة، والبعض يحرمها ويجرمها، وهناك بالفعل عشرات الآلاف من القضايا المرفوعة أمام المحاكم، والتي قد تقترب فيها أسباب البراءة من أسباب الإدانة!! أيضا القوانين المنظمة للتجارة الداخلية والرقابة عليها، والتي تحمل كما كبيرا من التعارض، وأذكر انه في بداية السبعينيات، وكان والدي من تجار الجملة للمواد الغذائية والعطارة وراثة عن جدي، وفي إحدي المرات حرر لنا محضر بسبب استيراد صفقة من جوزة الطيب، وهي نوع من العطارة، وكان سبب المحضر الذي حول للجنايات انها مدرجة علي جدول المخدرات في دستور الأدوية، وأخذت القضية براءة، لان جوزة الطيب مدرجة ايضا في قانون ومواد العطارة والتي تسمح بتداولها وبيعها. وهذا التعارض في القوانين لايزال موجودا حتي اليوم، وهناك ما يزيد علي 005 ألف قضية بالمحاكم، نتيجة التعارض في القوانين الخاصة بالرقابة الصناعية والزراعية، ورقابة المواصفات والمقاييس، وأيضا رقابة الأجهزة الصحية المسئولة عن متابعة التجارة والأسواق. ولعل القوانين المنظمة لنهر النيل والأجهزة الرقابية التي تشرف عليه، تحمل مثلا فاضحا وواضحا علي حالة التخبط في القوانين والتشريعات، ويكفي ان نعلم مثلا ان هناك 71 جهة حكومية مسئولة عن نهر النيل، ومنع الاعتداء عليه ومكافحة تلوثه، وكان نتيجة هذا الكم الهائل من الأجهزة الرقابية ان كاد نهر النيل يضيع، وتم الاعتداء علي طول حرم نهر النيل لمسافة تزيد عن نصف طوله، ووصل الأمر إلي ردم أجزاء كبيرة منه لبناء الفيلل والقصور ومراسي اليخوت. إن الذي يئن في البداية والنهاية هو أجهزة الرقابة والتحقيق، والتي تشكل هذه المتناقضات عبئا ثقيلا عليها وعلي المواطنين، لتصبح مصر من أكثر الدول تخمة بحجم القضايا المرفوعة أو المنظورة امام المحاكم. وإن كنت كثيرا ما اشفق علي رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف من كثرة الملفات والموضوعات المفتوحة امامه، إلا انني اثق في قدرته علي السير في حلولها دفعة واحدة، وذلك باجتثاث كل الأسباب التي تؤدي إليها، غير ان ذلك لابد ان يتم ايضا في إطار مرونة كاملة يحددها القانون، وتعطي الحق للمسئولين في التصرف، وبحدود ترتبط بسرعة الانجاز والابتعاد عن الروتين. فليس معقولا ولا مقبولا ألا يكون لرئيس الوزراء مثلا، أو لأحد الوزراء، سلطة اتخاذ القرار في أمر ما، لأنه يتعارض مع فقرة أو كلمة في قانون. صلاحيات اتخاذ القرار لابد ان تتم بعيدا عن الأيدي المرتعشة، فليس سرا ان عددا كبيرا من المسئولين، بل كبار المسئولين، يفكرون الآن ألف مرة ومرة قبل التوقيع علي قرار أو اتخاذ اجراء ، مخافة الزلل أو الخطأ، وشتان ما بين ديباجة القانون، وبين روح العدالة التي ننشدها.