وأين ولَّت منظومة القيم ؟! أتاحت لي صداقاتي وصلاتي، وما أجري وراء الإطلال عليه، أو يأتيني من المؤلفات بإهداءات كريمة، أن أري أن مصر عامرة بعلماء كبار حقيقيين، وبمفكرين عِراض ضربوا بمعاولهم وتأملوا في كل باب، وأخرج هؤلاء وأولاء آلافًا من الكتب والبحوث والدراسات. لكنها للأسف محصورة في دائرة قليلة من الحريصين علي المتابعة والاطلاع ونشدان الحقيقة، في صمت بلا تظاهر ولا ادعاء، وللأسف لا يجيدون ولا يجيد هؤلاء العلماء والمفكرون عرض هذه النفائس في صحائف وقنوات الإعلام، فتبقي بعيدة عن جمهور الناس، بل وعن كثيرين من المتعلمين ولا أقول المثقفين، فالمثقف الحقيقي يسعي إلي الثقافة والمعرفة في مظانها، ولا ينتظر أن تأتيه ! أما الإعلام، باستثناء جُزرٍ قليلة في إعلام الدولة، فمشغول بصراع الإعلانات، واجتلابها بترويج الإسفاف والإهاجة .. لا اهتمام له بما ينفع وينير، وإنما بما يثير ويجذب .. وليت الجذب يجتهد في التفتيش علي المواد الدسمة التي لا ينقصها عنصر الجذب والتشويق .. فقد كان الدكتور مصطفي محمود يفعل ذلك في برنامجه الشهير » العلم والإيمان » ويقدم علمًا غزيرًا نافعًا لا يخلو من التشويق، وكان الدكتور حسين فوزي الذي للأسف لم يَعُدْ يذكره أحد، يصنع الكثير في تقريب الثقافة والموسيقي الكلاسيكية بالذات التي كان يوالي شرحها وتفسيرها علي موجات البرنامج الثاني بالإذاعة المصرية، وقد قامت إحدي شركات الصوتيات الفنية بطبعها علي شرائط .. ثم اختفت ربما بسبب عدم الترويج وعدم إقبال الناس الذين جعل يغريهم التافه والمثير، وكان المرحوم الدكتور حامد جوهر يقدم ثقافة راقية ومشوقة وجذابة عن » عالم البحار » وما يموج به، وكان برنامج » عالم الحيوان » يقدم مادةً فريدة متميزة يُعْيينا التفتيش والبحث عنها في كتب وموسوعات الأقدمين والمحدثين، وفي المجلات المتخصصة . نوافذ العقل والمعرفة والثقافة وعوارض الإثارة ! كانت هذه الأعمال وغيرها نوافذ للعقل والمعرفة والثقافة، تربي العقول والأفهام والنفوس، وتفطر الناس علي الاهتمام بالثقافة الراقية وعلي نشدان القيّم والنفيس، بيد أنه مع تراجع تقديم هذه الأعمال، وانفجار قنوات الإعلام الخاص، بلا ضابط ولا رابط، وبلا رقيب أو حسيب يلزم بميثاق يحفظ للأمة وعيها وعقلها وتقاليدها وآدابها، انطلقت منافذ إعلامية عديدة لتشويه كل شيء، وتشويه العقول والمفاهيم والأذواق ونسف الآداب، فدنيا الإثارة المنحطة لا تبحث لا هي ولا ثقافة » الهدير » عن شيء مفيد، ولا تنشد لُبابًا، ولا تعني حتي بقشور فيها مسحة من قيمة، وإنما جعلت تفتح مصاريعها للإسفاف، وتتسابق فيه، وتقدم كل ساعة نماذج شائهة بلا فكر، وإنما بتطاول مادته مترادفات مقذعة، بمعان هابطة، وكلمات منحطة لم يسبق لأي إعلام أن سمح بها .. ولست أستطيع أن أضرب الأمثلة بالألفاظ المسفة المقذعة التي تفشت، فالذوق العام والأدب يأبيان أن أرددها، كما أن كل قارئ يعرف ما أقصده بها، ويعرف تمامًا أسماء من يتداولونها في سلوكهم وأحاديثهم وسبابهم وشتائمهم التي تفتح الفضائيات لها جميع النوافذ والأبواب، وتنوِّه عنها مقدمًا، جلبًا للمشاهدة ومن ثم للإعلانات التي أفسد السعي إليها كل القيم والمبادئ . الظاهرة الصوتية !! من سنوات، بدأت أكتب أكثر من مرة عما أطلقت عليه » الظاهرة الصوتية وثقافة الهدير »، وأعني بها الصخب والضجيج والصوت العالي، وتواري العقل والمنطق والموضوعية، أمام هذا الهدير الذي ساد وتفشي، وأدي إلي اختلاط المفاهيم، وتراجع القيم، بل وتراجع الدولة والنبهاء أمام هذا الصخب، وضربت لذلك أمثلة يمكن لمن يريد الإطلال عليها أن يرجع إلي ما كتبته عن » الظاهرة الصوتية وثقافة الهدير » بعدد جريدة الأهرام 11/8/2008 وأعدتُ نشره بنفس العام في كتاب » بين شجون الوطن وعطر الأحباب »، ليري كيف حلت الحناجر محل العقول، وانعدمت صلة ما يقال بمعطيات العقل والمنطق، فقد حل محل العقل الصخبُ والضجيجُ والضوضاء والصياح والهتاف والهياج والإهاجة والإثارة والاستثارة والانفعال والتشويش والتهويل والمصادرة والإرهاب، وأخذ هذا الهدير مكان العقل والحكمة والروية والفكر والتأمل والفعل والمعني والهدف والغاية، وصار صخب هذا الهدير يطارد الدولة ويطارد العقلاء والباحثين عن حكمة الفكر وعمق النظر وقيمة المعني وبصيرة الفؤاد ونفاذ الرؤية واعتدال العاطفة وسواء الفهم وسلامة النية ونقاء الضمير ! مفارقة لافتة !! كان من المفارقات، أن تضطر الدولة لسحب لقب » مستشار » من كبار رجال السلطة القضائية، والاكتفاء بلقب » قاض »، لأن اللفظ تهرَّأَ معناه في سلوكيات ادعياء جعلوا يتخذون لأنفسهم هذا اللقب الذي لم يحملوه يومًا، ويعرف الجميع ذلك، ولكن لا أحد يواجه أو يطبق القانون أو يحترم الأصول والتقاليد، إلاَّ أن الاستجابة لوضع الأمور في نصابها غدت ضعيفة بل معدومة، لأن العكس صار هو المعتاد، وصمم من صدر التشريع لمواجهة انفلاتاتهم علي الاستمرار في انتحال اللقب علي غير حق، بينما التزم رجال القضاء بالقانون، حتي رأينا اسم رئيس محكمة النقض ومجلس القضاء الأعلي مسبوقًا بلقب » القاضي » لا المستشار، ويبدو أنه مع طول السنين وتصميم الجانحين علي التحلي باللقب الذي لم يحملوه قط، قد عاد بالأمور يأسًا ! إلي حالتها الأولي، فانتصر الضجيج والانتحال والهدير، علي التقاليد والأعراف والنظام والدولة .. وهيبة القانون ! إيثار السلامة !!! مع ذلك فما صرنا إليه الآن من جنوح بات أعظم بلاءً، وأشد انحطاطًا، والجميع صامت إيثارًا للسلامة واتقاء السباب وطول الألسنة، فكما يقال في الأمثال » القبيحة ست جيرانها »، وظل هذا التراجع بعامل الخشية والتحسب، يتحول تدريجيًّا إلي » انبطاح »، لم يجد بأسًا من التملق والممالأة والنفاق، وبلغ التملق أو النفاق أو الخوف طلبًا للسلامة، حد التلاعب بالمعاني والمسمَّيات، فتطلق مسمَّيات »الخلاف» أو »الخصام» أو »الخصومة» أو »الحرب» أو »سوء التفاهم » وما إليها، علي حوادث شتم وسب وقذف وتطاول وتعدٍّ من جانب واحد، وبلا رد، لتساوي هذه المسمَّيات المغلوطة بين الجاني والمجني عليه، وتتحاشي التوصيف الصحيح الذي يجب أن يطرح علي المجتمع، لتصحيح الأمور وضبط قيمه وآدابه، حتي إنه لم يعد هناك بأس من استدراج إفراز القبح، بينما المُسْتَدرج منتفخ الأوداج لا يعنيه أنه مستدرج لما يُرَاد، وإلقاء البهارات علي الإثارة، لارتفاع المشاهدة، وارتفاع غلَّة وحصاد الإعلانات ! أقول لكم ربما قلنا، ويجب أن يُقال، إن العودة إلي النوافذ المضيئة بالعلم والثقافة والمعرفة ومتابعتها، كفيل بالقضاء علي هذه الظاهرة المفزعة، أو التقليص منها ومن آثارها علي الأقل، بيد أن الناس تتفاوت في الوعي والفهم والثقافة والطبع والذوق، ومنهم من لا يأنف بل يرحب بهذه الممارسات الشاذة القبيحة لأنها تسليه، وتصرفه عما يواجهه من مشاكل أو صعاب أو يأس أو تعاسة، وربما أشفت غليله فيمن يُطْلِقُ الشتَّام لسانَهُ فيه، وهذه آفات متراكمة، تحتاج إلي سنين طويلة لعلاجٍ قوامة التأديب والتهذيب والتعليم والتقويم، فأين لنا هذا الزمن الطويل الذي يمكن من خلاله تَبَنِّي مشروع كبير » للتربية » والتأديب والتهذيب وإعادة القيم ؟! هيبة الدولة واحترام القانون ظني أنه لا غناء عن النظام وهيبة الدولة والقانون، ولكن القانون تنهض الدولة وسلطاتها وأجهزتها علي تطبيقه، ويبدو أن إعمال القانون معطل في هذا المجال، والقعود عن إعماله يطلق الشائعات والأقاويل بأنها تصدر في ذلك عن رغبة مستترة في إلهاء الناس، وعن خطة مجربة في استخدام هذه النماذج الشائهة عند الحاجة إليها ! لست أريد أن أحكم علي أحد، وإنما حسبي أن أقرع الأجراس، لقد صارت الظاهرة إلي » انبطاح » المهذبين طلبًا للسلامة، وإلي تراجع المنطق والعقل والموضوعية، أمام الفوضي والإسفاف والهمجية وقلة الأدب، وعمقت الظاهرة من داء جعل يتسع ويتفشي، وصرنا نهتم » بالقشور » لا » باللباب »، وظني أنه لا أمل في أمة تنبطح أمام هذا الداء الوبيل، وترتضي أن يُغَيَّب العقل فيها أمام هذا الغثاء، وتكتفي بالقشور، مضحية باللباب، ومنصرفة عنه وعن كل ما يفيد، إلي ما لن تُحْمد عقباه ! مصيبة المصائب أن يبور العقل، وألاَّ تعود للأمة آداب وقيم وتقاليد !!