قامت قناة الجزيرة القطرية، منذ عدة أشهر، بعرض فيلم يحمل اسم »العساكر» ... اعتبره القائمون علي المحطة فيلماً وثائقياً ... وعرضوا فيه ما أطلقوا عليه رصداً لحياة الجندي المصري، و»معاناته»، عند التحاقه بصفوف قواته المسلحة ... غافلين أن العسكرية شرف وفخر وعزة الأمم ... ومحاولين إحداث فجوة بين الشباب المصري، وجيشه العظيم. لن أخوض في نية المحطة من عرض مثل هذا الفيلم، وإن كانت واضحة ... ولن أخوض فيما أدعاه القائمون عليها من أنهم قد أنتجوه بهدف تغيير الواقع، وبحثاً عن مصلحة الجندي المصري. ولكن ما يعنيني بالأساس هوما احتواه من مغالطات، قد تكون ناتجة عن عمد، أوربما عن جهل بعمل الجيوش النظامية العريقة .... ما يهمني هوأن يعي المشاهد معني ومفهوم »الفيلم الوثائقي»، الذي يعتبر نوعاً من الأفلام غير الروائية، التي لا تعتمد علي القصة أوالخيال، بل يتخذ مادته من الواقع، علي أن يتسم بالجدية وعمق الدراسة ... وهوما لم يتحقق بأي شكل من الأشكال، فيما قدمته المحطة، ليخرج فيلمهم كعرض ظاهره فيه الرحمة وباطنه فيه العذاب، خالياً من الحقائق، ومبنياً علي الزيف؛ مثل عرضهم علي لسان أحد الممثلين، الذين لعبوا دور جندي مصري، شكواه من أنه ظل طيلة 45 يوماً، منذ التحاقه بالجيش، لم يستخدم السلاح للرماية، سوي مرة واحدة أواثنتين علي الأكثر، فيما صوره »الفيلم» بأنه فترة تعذيب وليس تدريب! فرأيت أنه من الواجب إعطاء نبذة مبسطة عن سلسلة التدريب، المتعارف عليها، في القوات المسلحة ... علماً بأن تلك المنظومة ليست مقصورة علي مصر فحسب، ولكن معمول بها، في جميع جيوش العالم، وفقاً لما درسته، شخصياً، سواء في الكلية الحربية أوفي كلية أركان حرب في مصر، أوما تلاه من دراستي في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفي المملكة المتحدة، اللتان تتبعان نفس النظام التدريبي، في قواتهم المسلحة. فور التحاق الشاب بالتجنيد، تبدأ المرحلة الأولي لتدريبه العسكري، المتفق علي مدتها عالمياً، بأنها خمسة وأربعون يوماً، تطلق عليها القوات المسلحة اسم »فترة التدريب الأساسي»، أو»فترة المستجدين» كما تسميها بعض الكليات والمعاهد العسكرية. فتسمع، علي سبيل المثال، مصطلح »أساسي المشاه» أو»أساسي المدفعية»، إشارة إلي دفعات المجندين الجدد في تلك الأسلحة، الذين يخوضون فترة التدريب الأساسي.. يكون الغرض الأول من تلك الفترة، هوتحويل الشاب من طبيعة الحياة المدنية، إلي الحياة العسكرية، وتعريفه علي قواعدها من حيث الانضباط، وإطاعة الأوامر، والالتزام بالتوقيتات العسكرية الدقيقة، مثل موعد الاستيقاظ، أو»نوبة الصحيان»، في تمام السادسة من صباح كل يوم، و»نوبة النوم» في تمام العاشرة مساء، وما يتخلل اليوم من مواعيد أخري، مثل تلك المقررة للتدريبات سواء النظرية، أوالعملية ... كما تعلمه، تلك الفترة، الالتزام بالمظهر العسكري، بدءاً من الزي العسكري، وطريقة السير العسكرية، ثم طريقة حمل السلاح واستخداماته في الطوابير المختلفة. تتم تلك التدريبات بالتوازي مع التركيز علي الناحية البدنية للشاب المجند، عن طريق الالتزام بتدريبات رياضية يومية، مثل تمارين العدوالمعروفة باسم »طوابير اختراق الضاحية»، وغيرها، مع الالتزام بنظام غذائي محدد، بمواعيد ثابتة. المهم، في تلك المرحلة الأولي، أن الشاب المدني الملتحق كجندي بالقوات المسلحة، أوالمنضم كضابط لأحد الكليات العسكرية، أوحتي كضابط صف أوضابط احتياطي، يتحول، بعض انقضاء فترة الخمس وأربعين يوماً الأولي، إلي رجل عسكري من حيث الانضباط، والالتزام، والقدرة علي حمل السلاح، واستخدام الحركات التقليدية، مثل »كتفاً سلاح» و»سلاح سلاح»، إضافة إلي لياقته البدنية، التي تلحظها بوضوح بعد انتهاء مرحلة التدريب الأساسي، مقارنة بما سبقها. ليس مطلوباً من هذا المجند، في هذه الفترة الأولي، أن يتمكن من استخدام السلاح ... وهوما يفسر، للعامة، عدم تدريبه علي استخدامه قبل إعداده بدنياً، ونفسياً، وسلوكياً، استعداداً لدخوله المرحلة الثانية من التدريب العسكري، وهي ما يطلق عليها »فترة التدريب التخصصي» ... حيث يتم توزيع المجندين علي مختلف أفرع القوات المسلحة، وينتقل المجند، فعلياً، إلي معسكر مختلف، يسمي بالتدريب التخصصي للسلاح، ليبدأ التعامل، الفعلي، مع أنواع الأسلحة والمعدات وفقاً للاختصاص، وحسب وظيفة الجندي في مكانه الجديد، يتم تدريبه علي الرماية بالذخيرة الحية، طبقاً لنوع السلاح المحدد لتخصصه. مثال علي ذلك، المجندون الذين يتم توزيعهم علي سلاح الإشارة، بعد انتهائهم من المرحلة الأولي، أوفترة التدريب الأساسي، تجد منهم من يتدرب، في هذه المرحلة الجديدة، علي التليفونات السلكية، وكيفية مد كوابلها، وآخرون يتدربون علي شحن المعدات والأجهزة اللاسلكية المتطورة، بينما يتدرب فريق ثالث علي عمل الرمز، المستخدم في إرسال الإشارات أثناء أعمال القتال ... وهكذا تتباين التدريبات وتختلف، وفقاً لاختلاف الأفرع والتخصصات من ناحية، ووفقاً لوظيفة الجندي في هذا التخصص، من ناحية أخري. تتراوح فترة التدريب التخصصي بين ثلاثة إلي أربعة أشهر، حسب نوع المعدة أوالسلاح، التي سيعمل عليها الجندي فور التحاقه بالوحدات المقاتلة، وتُختتم هذه الفترة بمرحلة بالتدريب الليلي، بمعني التدريب علي استخدام السلاح أوالمعدة في الظلام، بعدما أنهي المجند تدريبه علي استخدامها نهاراً، أثناء الأسابيع الأولي لتلك المرحلة من التدريب التخصصي. إضافة إلي أن التدريب التخصصي ينقسم إلي تدريب نظري، يقصد به المذكرات المكتوبة، والتعليمات، والأوامر، وأساليب استخدام النظريات. ينتظم بعدها المجند في التدريب التخصصي العملي، فقائد الدبابة، يؤدي تمارين القيادة في ميدان التدريب العملي، وقائد المركبة البرمائية يؤدي تمرينه في القيادة علي البر، ثم يتبعه بالقيادة في البحر، ومجند البحرية ينفذ تدريبه العملي، وفقاً لوظيفته، علي سطح مدمرة، أوفي لنش بحري، أوداخل غواصة. أذكر، أثناء دراستي في إنجلترا، أن مدرس مادة التدريب ذكر أن الجيش البريطاني يشمل أكثر من ألف وظيفة للتدريب التخصصي، معظم تلك الوظائف موجودة بالفعل في القوات المسلحة المصرية، منها التدريبات التخصصية للوحدات الإدارية، والمعاونة، مثل الخدمات الطبية، والتي تنقسم، في ذاتها، إلي عدد من التدريبات التخصصية الفرعية، مثل التدريب التخصصي للعاملين في غرف العمليات، أوللعاملين في مراكز الأشعة، وغيرهم من العاملين في معامل التحاليل، وحتي للعاملين في مصانع الأدوية. كل هذا يعتبر نبذة عن التدريبات التخصصية، في القوات المسلحة لأي دولة في العالم، وهوما أغفلته قناة الجزيرة، عمداً، عند عرضها لفيلمها، عندما اختصرت فترة التدريب في الأسابيع الثلاث الأولي، التي لا تمثل سوي الفترة الأساسية لتأهيل الشاب المدني إلي شاب عسكري، قبل التحاقه بالوحدات المقاتلة. وبهذا، يتخرج هذا الشاب المدني، الذي التحق بالمؤسسة العسكرية، ومنظومتها، بعدما تم إعداده نفسياً وبدنياً خلال خمسة وأربعين يوماً هي مدة التدريب الأساسي، يليها تدريبه التخصصي لمدة تصل إلي أربعة أشهر، ليصبح جاهزاً، بعد ذلك، للالتحاق بالتشكيلات والوحدات المقاتلة، ليطبق ما تدرب عليه، كفرد علي معدة أوسلاح، ليعمل ضمن منظومة متكاملة، من باقي القوات ... تلك المنظومة التي سنفرد لها مقالاً مستقلاً في العدد القادم.