لا ينبغي أن يكون هناك أي شك في أن مصر لديها التصورات الكاملة للتعامل مع كل الظروف فيما يتعلق بقضية مياه النيل.. وفي نفس الوقت فإن القاهرة حريصة كل الحرص أن يكون التعاون المشترك مع دول حوض النيل هو أساس التحرك لحماية مصالحها ومصالح كل الشركاء.. وهو ما طبقته بمرونة كاملة في قضية سد النهضة حتي الآن. تجاوزت مصر عما حدث من الجانب الاثيوبي، حين انتهز فرصة الوضع المضطرب في مصر بعد ثورة يناير، ثم الأوضاع الكارثية في عام حكم الاخوان الاسود.. لكي يمضي دون اتفاق في مشروع سد النهضة، ثم ليضاعف المخاطر حين يضاعف سعته السد لأكثر من خمسة أمثال ما كان مخططا له. ومضت مصر- بعد 30 يونيو- علي طريق تصحيح الاوضاع وضمان الحقوق التاريخية في مياه النيل.. وانطلق التحرك المصري من خيار استراتيجي بأن يكون التعاون المشترك هو السبيل لضمان مصالح جميع الاطراف، وأن تكون الثقة كاملة للوصول الي ما يحقق هذه المصالح- وما يضمن أن يظل النيل العظيم رابطا بين شعوب الوادي، وأن يظل شريانا لخير الجميع. وإذا كان قد بات واضحا ان محاولات التسويف مستمرة، وهو ما أدي الي تعثر المفاوضات حول الجانب الفني بعد 17 جولة انتهت بعدم التوافق ورفع الأمر للسلطات الأعلي لاتخاذ ما يلزم من قرارات بهذا الشأن، فإن علينا ونحن ندرس، كما أعلنت الحكومة المصرية- جميع الاجراءات التي تتخذ لضمان حقوق مصر في مياه النيل، علينا أن ندرك أن ما قدمناه- حتي الآن - من مرونة في التعامل ومن سعي للتعاون من أجل مصلحة الجميع لم ولن يذهب هدرا!. موقفنا الآن أمام العالم- وأمام دول حوض النيل وأفريقيا كلها علي وجه الخصوص أصبح أكثر وضوحا، وقضيتنا العادلة لم تعد مجالا للتشكيك أو المزايدات يدرك الجميع الآن أننا لا نسعي للإضرار بأحد، بل علي العكس من ذلك.. نحن نمد أيدينا للتعاون ونفتح قلوبنا بكل المحبة لشركائنا في النيل العظيم. قلنا بوضوح إننا مع حق اصدقائنا وشركائنا في اثيوبيا في التنمية ومع مشروعاتهم لانتاج الكهرباء، بشرط ألا تمس حقوقنا في مياه النيل، وهو الأمر الذي تقره كل المواثيق الدولية، بالاضافة الي انه لا يعوق مطلقا جهود اثيوبيا في التنمية ولا مشروعاتها للكهرباء. وقلنا بوضوح إن مصلحتنا ومصلحة اشقائنا في السودان تستلزم توحيد المواقف في مشكلة سد النهضة، وتوحيد الجهود لزيادة الاستفادة من الموارد المائية، والتعاون المشترك لكل ما يحقق خير مصر والسودان ومصالح الشركاء من دول حوض النيل وفي مقدمتهم اثيوبيا. وكنا ندرك أن سد النهضة قد يكون له بعض المنافع التي يستفيد منها السودان الشقيق.. ولكن هذه المنافع يمكن أن تتحقق كلها مع انخفاض سعة التخزين بمشروع السد إلي النصف أو أقل.. كما أن هذه المنافع يمكن ان تكون مقدمة لكارثة - لا قدر الله- إذا لم يتم بناء السد علي أسس هندسية سليمة وأصبح عرضة للانهيار!!. من هنا يبدو غريبا هذا التوافق الاثيوبي - السوداني علي تعطيل المسار الفني للمفاوضات، والذي لا يستهدف إلا لإعداد الدراسات الخاصة بأثار سد النهضة تمهيدا للاتفاق علي قواعد ملء السد وأسلوب تشغيله بما لا يضر بمصالح أي طرف!!. ومن هنا يبدو مثيرا لكل الشكوك.. أن تقابل مرونة الموقف المصري واستعداده الكامل للتعاون لتحقيق مصالح كل الاطراف، بهذه المواقف التي لا تعني إلا الإصرار علي التسويف، وعلي تعطيل التفاوض، ومحاولة كسب الوقت.. توهما بأن مصر يمكن ان تقبل- تحت أي ظرف- الانتقاص من حقوقها المائية، أو الرضا بأن يكون امنها المائي رهينة لدي الآخرين، أو ورقة ضغط ووسيلة مساومة في سوق تحكمها الاغراض السياسية، لتجور علي الحقوق التاريخية التي تكفلها المواثيق وتؤكدها القوانين الدولية. لقد أعلنت حكومة مصر أنها »تتابع الاجراءات الواجب اتخاذها للتعامل مع ملف سد النهضة علي جميع الاصعدة باعتبار ان الامن المائي لمصر هو عنصر جوهري للأمن القومي» والرسالة واضحة لكل الاطراف.. والقضية لا تحتمل أي خطأ في القراءة، أو أي فهم لمرونة مصر في الفترة الماضية علي انها قبول بالأمر الواقع، أو أي توهم بأن مشروع السد الاثيوبي يمكن أن يكون وسيلة ابتزاز أو ورقة ضغط علي مصر اليوم أو غدا!! مرونة الموقف المصري كانت رسالة للجميع بأن مصر تبتغي الخير لشركائها في النيل، لكنها لم تفرط في قطرة ماء واحدة من نصيبها في مياهه، ولن تتنازل عن حقوقها التاريخية التي يدعمها القانون الدولي، وأن مياه النيل بالنسبة لها هي قضية حياة أو موت كما قال الرئيس السيسي في حوار مهم علي هامش منتدي شرم الشيخ قبل أيام. نعم.. بعيدا عن التسويف المتعمد، أو محاولات فرض الأمر الواقع، أو أوهام الضغط علي مصر، فإن الحقائق علي الارض تقول إننا وصلنا الي مفترق طرق، وعلي كل الاطراف ان تصلها الرسالة واضحة: مصر أبدت ما يكفي من المرونة، وعلي الجميع أنه يدرك انه لا تفريط في قطرة واحدة من مياه النيل، وعلي شركائنا في أزمة سد النهضة ألا يسيئوا الفهم، وألا يخطئوا الحساب!!.