من الآفات التي عرضت للمسلمين، عبر عصور التخلف والتراجع والهبوط، الخلط بين الدين وبين آراء الناس أو العلماء فيه، أو حسب المفهوم الاصطلاحي الخلط وعدم التفرقة بين الشريعة، وهي ما أنزله الله تعالي وأمر به، وبين الفقه، وهو آراء العلماء فيما يفسرون أو يستنبطون به أحكام الدين. فالدين، وشريعته، مصدره إلهي. والفقه، مصدره بشري. وقد يعين العمل البشري الصحيح المتعمق، في فهم الدين، ولكنه لا يحل محله، ولا يجوز أن يحل محله، ليس فقط لفارق المصدر وهو عظيم، بين الإلهي والبشري، وإنما أيضًا لأن الفهم البشري يرد عليه الاختلاف والتباين والقصور والتغير إلي غير ذلك مما يمكن أن يصيب العمل البشري! تحذير الأستاذ الإمام وقد حذر الأستاذ الإمام محمد عبده من الخلط بين الشريعة أي الدين، وبين الفقه وهو آراء الفقهاء، وحذر من اتخاذ هذه الآراء البشرية، أيًّا كان أصحابها أساسًا للدين، فقال تحذيرًا من مغالاة أو كذب بعض الفقهاء بإعطاء قداسة لآرائهم ليست لهم ولا تكون إلاَّ للشريعة كما أنزلها الله، قال: »لقد جعل الفقهاء كتبهم علي علاتها أساس الدين، ولم يخجلوا من قولهم: إنه يجب العمل بما فيها وإن عارض الكتاب والسنة (؟!!!). فانصرفت الأذهان عن القرآن والحديث، وانحصرت الأنظار في كتب الفقهاء وعلي ما فيها من الاختلاف في الآراء، والركاكة». المفهوم الاصطلاحي للفقه وقد كان يمكن للنظر المغلوط أن يمر أو يجد مساحةً من القبول لو بقي الفقه علي ما أفصح عنه الإمام أبو حنيفة من أنه: »معرفة النفس ما لها وما عليها» فقد كان هذا التعبير تعبيرًا عامًّا يشمل جميع المعاني، إلاّ أن المعاني المتفرقة أو المتنوعة، تستلزم علمًا خاصًّا بكل منها، وقد ورد بالقرآن الكريم، »فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ» (التوبة 122). هذا ولم يعد الفقه بهذا المعني العام، وتطور بهدي علم أصول الفقه الذي كان الإمام الشافعي أول واضعيه، فصار الفقه: »العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية بالاستدلال»، وبذلك خرج من هذا المفهوم: الأحكام الاعتقادية والأخلاقية، وصار مدلول الفقه قاصرًا علي الأحكام العملية، أي علي العبادات والمعاملات. أما الشريعة فإنها أوسع من هذا وأشمل، فتشتمل علي كافة الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقيدة والأخلاق والمعاملات، وهذه كلها تستند إلي الوحي الإلهي ولا مجال فيها للاجتهاد. والفقه طبقًا للتطور الذي آل إليه بهدي علم أصول الفقه، وإن اعتمد أساسًا علي القرآن والسنة، إلاَّ أن من مصادره ووسائل استنباط أحكامه، مصادر ووسائل واجتهادات بشرية، فيما عرف في علم أصول الفقه بالاستحسان الذي اعتبره الإمام مالك: »تسعة أعشار العلم »، والمصالح المرسلة كمصدر من مصادر الاجتهاد للتعرف علي الأحكام الشرعية، والعرف المعتبر علي اختلافه في الزمان والمكان والظروف من الأدلة الشرعية، والذرائع التي اعتبرها الأصوليون من وسائل استنباط الأحكام الشرعية، علي تفصيلات وأحوال عديدة تختلف فيها الآراء وتتباين، والاستصحاب وهو الحكم علي الشيء بالحال التي كان عليها، حتي يقوم الدليل علي تغييرها، وهذا مجال واسع لاختلاف وتباين الآراء بشأن ما كان الحال عليه أو بشأن ما قد صار أو يصير إليه. ومجمل هذا والحديث فيه يطول، أن افتراض العلم والإخلاص وصدق التوجه، لا يعني بذاته اتحاد أو تطابق الآراء ومن ثم الأحكام، ما دام هذا العمل عملا بشريا، تختلف في أدائه المستويات تبعًا لاختلاف العقول، ودرجات العلم، وتباين الثقافات والمعارف العامة، والقدرة علي التفسير والتحليل والاستنباط. وهذه الحقيقة ليس في وسع أحد أن ينكرها أو يماري فيها، فدليلها القاطع تعدد الآراء بل تعدد المذاهب، وإمكان اختلاف الحكم في الآمر الواحد بين مذهب وآخر، بل وبين الفقهاء داخل المذهب الواحد، الأمر الذي يستحيل معه وصف هذا العمل البشري بأنه دين، أو إنزاله بمنزلة الدين، وإنما قصاراه أن يكون رأيًا ضمن آراء للهداية بلا مصادرة إلي الحقيقة والصواب. ضرورة تجديد الفقه لا ينازع أحد في أن التجديد جزءٌ لا يتجزأ من بنية الإسلام الحيّة، يتجلي في تجديد الفكر، وتجديد الفهم، وتجديد الخطاب، وقد حدثتك طويلاً ومرارًا عن هذا كله، الأمر الذي يضيف عنصرًا من العناصر الواجب أخذها في الاعتبار لتعريف الدين أو الشريعة. الدين شيء، ومصدره إلهي. والفقه فهم، ومصدره بشري. وقصاري ما يطلب من الفهم البشري أن يعرف بالمقصود الإلهي. المقاصد لا توجد شريعة، بل ولا يوجد قانون وضعي، بغير مقاصد.. هذه المقاصد هي روح الشريعة وغايتها، وأساس حياتها، ومنارة تجدد فكرها وفهمها وخطابها. إن الله سبحانه وتعالي لم يخلق الخلق عبثًا، ولم يترك الإنسان الذي أفصح في القرآن الكريم عن أنه كرّمه وفضّله عن كثير من خلقه تفضيلا لم يتركه سدًي، فأنعم عليه بالدين روح الحياة وضابط مسار الأحياء، وأنعم عليه بنعمة العقل قوام الفهم والإدراك والحكمة، وبعث إليه برسله وأنبيائه لهدايته، خاتمًا بالإسلام الذي جاءت شريعته منطوية علي »مقاصد» تشكل قوام مصالح الإنسان، وتشكل مفتاحه أيضاً لفهم الدين مهتديًا بمقاصده. والمقاصد الأساسية أو الضرورية، التي تغيتها الشريعة الإسلامية، هي حفظ النفس، والعقل، والدين، والمال، والنسل. وحياة الإنسان في الدنيا تقوم علي هذه المقاصد الخمسة الأساسية، وهي من ضروريات حياته، ولازمة لها ولحقوقه التي لا تستقيم هذه الحياة إلاَّ بها وعليها. إن جلب المنفعة ودفع المضرة، مقصد ولا شك من المقاصد للخلق. وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، جزءٌ لا يتجزأ من هذه المقاصد بوضعها موضع التنفيذ. إلاَّ أن المقاصد الخمسة: النفس، والعقل، والدين، والمال، والنسل، تشكل قوام حياة الإنسان وحقوقه، وهذه المقاصد تمتزج بالمصلحة امتزاج لزوم. حفظ النفس يأتي حفظ النفس علي رأس قائمة مقاصد الشريعة الإسلامية، وهذا المقصد الأساسي لا يقتصر علي حفظ نفس الإنسان الحيّ، وإنما يمتد بحكم اللزوم إلي الجنين الذي في الأرحام، وحقه في الحياة، ومن يفهم هذا المقصد من مقاصد الشريعة، يفهم لماذا حَرَّمَ الإسلام قتل الجنين الذي في بطن أمه، أو حرمانه من القدوم إلي الحياة. واهتداءً بهذا المقصد: حفظ النفس، كان الإجهاض جريمةً مزدوجة، ليس حسبها اعتداء علي حق كائن بشري في الحياة، وإنما هي أيضًا عدوان علي حق الله الذي يملك وحده منح الحياة وإنهاءها. وفهم هذا المقصد: حفظ النفس، فهمه الصحيح الواجب، يرتب أن الحماية لا تقتصر علي الروح، وإنما تمتد إلي البدن بأعضائه وأطرافه، وتمتد إلي الكرامة والاعتبار، بتحريم السب والقذف، أو الحد من نشاطه وحريته أن يمارس حياته في ضوء أحكام الدين ومقاصده. وعلي ذلك كانت صيانة حرمة النفس الإنسانية ضرورة شرعية. وعن هذا المقصد: حفظ النفس، تفرعت الرحمة، وهي اسمٌ من أسماء الله الحسني، ووصف لنبيه المصطفي، وغاية لرسالته: »وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ». (الأنبياء 107). وعن هذا المقصد: حفظ النفس، تفرع مبدأ الضرورة المعفية من الإثم والمسئولية، وحق المدافعة الشرعية عن النفس، وحق المتهم في ألاّ يُجبَر أو يعذّب للاعتراف، وسن قاعدة إسقاط الحد بالشبهة. إن هذا المقصد: حفظ النفس، يشجب كل تصرف يعتدي علي حرماتها، ويشجب كل صور الإرهاب والقتل والإهلاك، ويقيم حدودًا يجب أن تكون حاضرة في عقل ووجدان وسلوك من يريد الالتزام بأحكام الإسلام والبقاء في باحته التي جُعِلَتْ لعمار الحياة، لا لتدميرها وإنهائها.