نستكمل ما كنا قد بدأناه في الحلقة الأولي من هذه السلسلة في محاولة للإجابة عن الأسئلة المحورية، لماذا نظمت الجماعة هذا الاعتصام وهي تعلم أنه لن يستمر مهما طالت مدته؟ لماذا أصرت عليه وهي تعلم أن الدولة ستقبل علي فضه لا محالة ؟ لماذا ورطت أطرافاً أخري في الاعتصام من المنتمين للجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وفلول السلفيين معها؟ لماذا أصرت علي الاستقطاب الحاد والشحن المعنوي المتصاعد ليتحول الاعتصام إلي غاية في ذاته وليس وسيلة للتفاوض العقلاني؟. الإجابة عن هذه الاسئلة ستكشف حالة الخداع التي مارستها الجماعة علي الجميع حتي حلفائها وحتي عناصرها القاعدية وكوادرها المتوسطة، في عملية استخدام مهينة لاتبالي بقيمة الإنسان، كما تكشف عن عملية تحقير ممنهجة تمارسها القيادات علي عناصرها وتخضعهم لتجارب غير محسوبة، وأيضاً تكشف عن حالة سيكوباتية تسيطر علي نفسية وسلوك القيادات التي تمعن في سحق عقول الأتباع لاستخدامهم كيفما تشاء وقتما تشاء. • يقيناً كانت قيادات الجماعة تدرك ما تريد، وتسير في طريقها للصدام مع الدولة لاستدعاء الدماء بعدما أدركت أنها تمر بأزمة مختلفة ستؤدي حتماً إلي نهاية الجماعة التي وصلت لحكم البلاد بالفعل فانكشفت سياسياً وتنظيمياً أمام جمهورها المنخدع وأمام الكثير من كوادرها، فلم يعد من الممكن إعادة البناء لتحقيق نفس الغاية وهي معاودة تجربة الوصول للحكم التي مازالت آثار فشلها لم تغادر الأذهان، ولم يكن أمام تلك القيادات إلا بناء مظلومية جديدة بشرعية الدماء لخلق هدف جديد تلتف حوله الكوادر وهو الانتقام الذي حتماً ستصاحبه آلة إخوانية قادرة علي نسج الأساطير حول ماتعرض له الجيل الإخواني الحالي من ظلم واضطهاد في إعادة لتزييف التاريخ باستخدام مايمكن أن نسميه متلازمة سيد قطب الذي نسجت حول واقعة إعدامه أساطير وحكايات كانت ومازالت مصدراً لإلهام جيل كامل من الإرهابيين والتكفيريين. إذن كانت قيادات الجماعة تدرك تماماً هدفها من الاعتصام واستدرجت كوادرها التي سحبت بلاوعي وبلا إرادة إلي أكبر عملية انتحار جماعي منظم بعدما أدركت أن الجماعة تعاني أزمة وجودية تاريخية لا سبيل إلي تجاوزها إلا بالدماء التي ستخلق حالة مظلومية جديدة . لهذه الدرجة تستهين القيادات بأرواح ودماء ومستقبل شبابها من أجل إعادة إحياء فكرة التنظيم التي أثبتت فشلها أمام جموع الشعب المصري، فإذا كانت الاستهانة بدماء أعضاء الجماعة وصلت إلي هذا الحد فما بالك بحجم الاستهانة بدماء عموم المصريين. والمدهش أنها لم تكتف بالاستخدام المنظم لدماء أعضائها فقط، بل استدعت المنخدعين من أعضاء الجماعات المتأسلمة الأخري الذين لن يكون لهم أي نصيب إذا ما نجحت الجماعة في إعادة البناء الدموي. ولم يكن لهذه الجماعة أن تقدم علي هذه الجريمة الإنسانية باقتياد عناصرها إلي حتفهم إلا بعد عملية إعداد معنوي يتم فيها إلغاء العقل والمشاعر والصفة الإنسانية للشخص الإخواني. لكن الإصرار علي إعادة بناء التنظيم علي قواعد مظلومية جديدة مهما كانت تكلفة الدماء يكشف عن جماعة تعبد ذاتها، كما يكشف عن قيادات تقدس الجماعة أكثر من تقديسها للإسلام نفسه الذي حولته إلي أداة لخدمة التنظيم وليس العكس، وهي مقولة حقيقية أثبتت التجربة العملية الدموية صحتها ، فالفرد الإخواني يتم تلقينه في كل لقاء تنظيمي بأهم تعليمات الجماعة » التنظيم مقدم علي المشروع» أي أن بقاء التنظيم وتماسكه له أولوية علي المشروع الإسلامي.. تخيل! ويبقي السؤال قائماً متي ستوقف الجماعة عبثها بالدماء ؟، ما حجم الدماء اللازمة لبناء المظلومية المنشودة ؟، كيف ستقنع الجماعة كوادرها المتحفزة للدماء بالتوقف فجأة والعودة للعمل الدعوي ؟. كانت عملية القتل والاقتتال هدفاً رئيسياً لقيادات الجماعة لإعادة البناء التنظيمي علي جثث الكوادر المغيبة، كانت القيادات تهدف لخلق ملحمة أسطورية تضاف لأدبيات الجماعة كأداة لإلهام وتغييب الأجيال القادمة ممن سينضمون للتنظيم والتي ستحكي لهم أسطورة رابعة المسطرة بالدماء لتغرس في داخلهم حالة الاستعلاء الإخواني من خلال الشعور بالانتماء لفكرة بذلت من أجلها دماء وأرواح، وهي حالة لاتنفصل عن التجربة الإخوانية بأكملها فهي نفس القيادات التي أقنعت وخدعت الكوادر بقدسية مكتب الإرشاد فقتلوا المصريين دفاعاً عن مبني خرساني وانتهت جريمتهم إلي اقتحام المبني وفرارهم. الحالة الدموية التي سيطرت علي القيادات التي أدارت الاعتصام لم تكن لتحدث مفعولها وتأثيرها علي الكوادر إلا إن كانت مصحوبة بمنهج تكفيري مكثف، وإذا كانت تلك القيادات تعتقد أنها يمكن أن تروي شجرة الجماعة بالدماء فإن الدماء لن تثمر إلا مزيداً من الدماء، لكن الجماعة قدمت لمستقبل هذا الوطن خدمة جليلة عندما كشفت في اللحظة الفارقة عن حقيقتها التي طالما غابت عن الجمهور بفعل نخبة منخدعة وبفعل قدرة الجماعة علي التمويه، ولن تمر جريمة القيادات بسلام فلن تعود الجماعة كما كانت أبداً، بل ستتحول إلي تنظيم جهادي تكفيري مسلح بلا مواربة، ولن ينسي المصريون ماارتكبه التنظيم في حق الوطن. القيادات أنها يمكن أن تسيطر علي آلة القتل التي أطلقتها وقتما تشاء، اعتقدت أنها يمكن أن توثق الجرائم كبطولات، لم يردعها وازع من دين أو الضمير أو إنسانية، كشفت عن حقيقة الشخصية الإخوانية التي لا تعترف بقيمة الإنسان حتي وإن كان من اتباعها، كشفت عن جماعة تستخدم القتل كأحد أدواتها التنظيمية، جماعة تعاني مرضاً نفسياً جماعياً مزمناً، جماعة نشأت واستمرت لتكون نموذجاً حقيقياً لتشويه الإسلام وإلصاق صفة الإرهاب والقتل به، جماعة حولت التنظيم إلي وثن تقدم له دماء المصريين قرباناً لتكشف عن خلل إنساني وأخلاقي وعقائدي.