مرحبا بالوليد، بزهوة البريق في أول أيام العام الجديد. باسم الله نستفتح معا هذا المجهول، اللهم أنعم علينا بما يشرح النفوس، ومن المفاجآت يخفف عنا الثقيل. ربي اجعله عاما مبروكا علي المصريين، واحم بلادنا من كل غدر لئيم، الله آمين.. يستهويني ما يعرف بالتاريخ، ماضي الدهر و مر الزمان، البعيد منه والقريب، رغم ادراك متزايد بأن ما نقرأه لا يزيد كثيرا عن أنصاف حقائق ، أو أنصاف أكاذيب، ربما كانت أماني محبطة وأحلاما مجهضة لمن سجلوا هذا التاريخ نقرأه عنهم بعد دهور، نصوصا كأنها الوقائع، ونحن أدري اليوم كيف تكتب الوقائع وتتلون الأحداث. ولكم يشغل سرحاتي تساؤلات عمن دخلوا التاريخ و تربعوا فيه وعرفوا بالعظماء.. وهل كانوا في مضمونهم مختلفين، فما الذي يجعل العظيم عظيما؟ أظروفا معينة، أم موقف ما؟ هل الحظ الذي يدفع أم العظمة كامنة بداخلهم تولد معهم.. جينات مثلا أم استعداد خاص أم ماذا؟ فما الذي يجعل هامات ترتفع فوق هامات مجتمعاتهم، بينما منهم أو غيرهم قد لا يقلون عنهم مواهب ان لم يمتازوا.. موضوع العظمة هذا، أو عظمة علي عظمة يشغلني أحيانا فمن أين تتأتي؟ ولاحظ أن العظمة هي غير العبقرية، فقد لا يكون العبقري عظيما بينما غالبا (ما لا يكون) العظيم عبقريا... فمثلا ظاهرة أوائل الثانوية العامة لدينا، تسمع عمن حصل منهم علي 100٪ وأحيانا يقال 110 ٪ (!!) يعني عباقرة أو هذا يفترض ثم.. لا تجد لهم أثرا في مجري الحياة ذابوا... هذا ألبرت اينشتاين أعظم العقليات العلمية في القرن الماضي كان تلميذا بليدا في سني الدراسة الأولي بطيء الفهم وغيره.. بدايات ذهنية متواضعة ثم يمضي الطريق فاذا بها تتبوأ مكانات عظيمة، فما الذي يحدث ويدفع الي القمم؟ نبدأ من رأس المسألة: من هو العظيم.. أظن الاجابة تعتمد علي قياسنا أو تحديدنا لما نطلق عليه بالعظمة.. هل توجد معايير لمثل هذا القياس؟ سرقني بالأمس كتاب هو أصل تداعي كل هذه السطور، وقع في يدي بينما كنت أزيل بعض الغبار عن بعض الرفوف.. قرأته منذ سنوات فاكتشفت ان المؤلف قام بتحليل ماهية العظمة هذه وفق احدث ما بلغته علوم المدنية الحديثة في علم الجينات، والعلوم الاجتماعية، وعلم النفس أيضا (عنوانه من الذي يصنع التاريخ ولماذا).. المؤلف كان أستاذا لكرسي علم النفس بجامعة كاليفورنيا، ورغم انه لم يأت بتوصيف محدد لكيف ولماذا يكون العظيم عظيما الا انه انتهي الي تحديد عدة خصائص مشتركة للعظمة أو الزعامة الحقيقية التي تتربع في التاريخ، تبين ان أولها وأهمها خاصية تعرف بالاصرار الذي لا يلين، بمعني الاستمرارية وعدم التوقف أو التسليم قبل الوصول للهدف.. نماذج كثيرة يسردها الكتاب لعظماء جميعهم كانوا بمستوي ذهني عادي تماما، أي العظمة لا تنتسب لذكاء باهر أو خارق، إذ وجدت الدراسة أن تحقيق غاية كبري في مجال ما إنما يبني علي قدر الاستغراق لتحصيلها بمحاولات لا تكل ولا تمل.. مفتاح السر في روح الإصرار ممزوجا بالشغف، لم يوجد عظيما غير مثابر. بقي السؤال بلا جواب: هل يولد المرء هكذا عظيما ينتظر الظرف المناسب أم الظروف تخلق الزعامات يا تري.. يقدم الكتاب أنماطا: نمط الابن الاكبر والابن وحيد أبويه، مشروع زعامات في حدودها الصغيرة مهيأة غالبا لتمسك بزمام الامور علي كل مستوي ونمط آخر: عنصر التوقيت أو الظرف المناسب.. وأري - أقصد كاتبة هذه السطور - أن هذا بالتمام هو مربط الفرس: التوقيت او الظرف المناسب هو الذي يكتشف الزعامة و يحدد مفهوم العظمة.. لنأخذ نموذج جمال عبد الناصر، فلم يكن محبوبا ولا شعبيا ولا عظيما ولا لمس شغاف قلوب المصريين الا يوم ضرب بالرصاص في حادث المنشية صمد واقفا في التسجيل الشهير.. بعدها تركزت العظمة عندما أعلن تأميم قناة السويس، رغم ان القناة كانت ستؤول الي مصر بعد سنوات معدودة، انما المفاجأة ورنين استقلالية الارادة في ذلك الزمن ما خلب لب الجماهير وأبقت عوامل زعامته صامدة رغم الكوارث و النكبات.. اذن الظرف أو التوقيت هو العامل الاهم في اكتشاف زعامة ثم تثبيت عظمة... نعود للكتاب نجد الدراسة تقول أن من يكون زعيما في عصر قد لا يصلح بالضرورة للزعامة في زمن سابق أو لاحق.. عناصر الزعامة تقترن بخصائص كل عصر، عظيم في القرن الثامن عشر لن تصلح بالتأكيد للقرن الواحد و العشرين أو أواخر القرن الماضي .. ملاغاة الجماهير تختلف باختلاف الازمان وهذا ما يحتاج لفطنة وحس اجتماعي وليس بالضرورة لذكاء مفرط.. بل ثبت ان أكثر الزعماء الأفذاذ في التاريخ لم يكونوا علي قدر مفرط من الذكاء بل دخل عامل آخر أصبح أكثر اهمية من مستوي الذكاء المتعارف عليه، وهو القدرة علي التفاعل مع الآخرين بالاتصال.. الزعيم في زماننا هذا لابد ويكون خبيرا في فنون الاتصال الجماهيري، وهذا علم له أصول وليس مجرد موهبة وأتقنها الرئيس الامريكي الأسبق كلينتون كما لم يتقنها قائد آخر عرفه عصرنا.. - و هذا رأيي وليس رأي الكتاب الذي سبق نشره عهد كلينتون... فالذي عاشه الرئيس كلينتون لم يعايشه أي زعيم أو قائد أو رئيس في أي عصر من العصور ثم تجاوز هذا كله بموهبة خارقة! شئ آخر و ليس في الكتاب ايضا وهي ان طبيعة هذا العصر ما عادت تتسع لما كان يعرف بالعظمة، وانما المتعارف عليه الآن هو تعبير الزعامة.