لا أعتقد أن الرئيس مبارك قد اضطر في يوم من الأيام لطلب سلفة، أو الاستدانة من قريب أو صديق. وأكاد أجزم - من واقع رصد دقيق للأحداث والمواقف، التي عاشتها مصر في ظل قيادته - بأنه لم يطلب المساعدة، أو الحصول علي قروض أو منح جديدة لمصر، إلا في ساعات الشدة. طلب المساعدة يمثل عبئاً ثقيلاً عليه، وربما كان اللجوء إليه هو الخيار الوحيد أو الأخير. ورغم ذلك نجح الرئيس في تحقيق أكبر طفرة اقتصادية في تاريخ مصر، شملت إعادة بناء كل شيء. وقد تم ذلك رغم أن خزانة الدولة - وقت أن تسلم الحكم - كانت خاوية تماماً!! في الأسابيع الأولي لتوليه الرئاسة، أبلغه الدكتور فؤاد محيي الدين - الذي كان رئيساً للوزراء - بأن كميات القمح والدقيق المتوافرة لا تكفي إلا لأيام معدودة، فكلفه الرئيس مبارك بإجراء اللازم لشراء واستيراد كميات إضافية. لكن يبدو أن التكليف الصادر من الرئيس لرئيس وزرائه، كان يحتاج لتوضيح من الدكتور فؤاد محيي الدين، والذي سارع قائلاً في خجل.. بس يافندم مفيش فلوس؟ كانت بداية صعبة، لكنها ظلت مع الأيام تشكل هاجساً، أعتقد أنه من الضروري أن نتوقف أمامه، لكي نرصد إنجازاً يمثل في اعتقادي علامة بارزة في تاريخ الكرامة المصرية، وعطاء زعيم كانت له رؤية ثاقبة تسبق الزمن. أنجاز لم نتوقف أمامه وندرك مدي أهميته وقيمته، رغم أنه كان وراء كل ما تحقق في بلادنا. لم تكن الكرامة هي فقط تحقيق النصر وإعادة أرضنا المغتصبة، لكن الكرامة كانت تتعلق أيضا بقوة مصر، وقدرة اقتصادها علي ان يلبي طموحات متزايدة لشعبها.. فشعب يتغني بالنصر ولا يجد قوت يومه يمثل معادلة صعبة، استطاع الرئيس مبارك حلها. الرئيس الذي تولي الرئاسة وخزانة بلاده خاوية، إلا من دفاتر وأوراق كثيرة تمثل صكوك مديونية ثقيلة للعديد من دول العالم. وصلت هذه المديونية إلي ما يقارب 14 مليار دولار، وشكل سداد فوائد هذه الديون عبئا ثقيلا علي الموازنة العامة للدولة، وكان له أثره الواضح في خفض العديد من المخصصات المدرجة لمجالات التنمية المختلفة، وبدء عملية الاصلاح التي شملت كل شيء. فلم يكن عبء الديون أو انخفاض الموارد، هما الخطر الوحيد الذي يحدق بقدرة مصر علي تحقيق طموحات شعبها، ولكن كان الخطر الأكبر هو الانهيار الكامل الذي تعيشه كل مرافق الدولة، والحاجة الماسة إلي إعادة بناء البنية الأساسية من جديد. وكان تحقيق ذلك يمثل دربا من المستحيل، تؤرقه مطالب الدائنين والتزامات مصر بضرورة سدادها، وتطلعات متزايدة لأبناء مصر الذين كانوا يتعجلون جني ثمار الانتصار، وسط غمامات من انفتاح اقتصادي غير محسوب وغير متدرج، ساهم في ضبابية الموقف في نهاية السبعينيات.
معظم الناس يكرهون لغة الأرقام، باستثناء رقم واحد هو الزيادة التي تتم في المرتبات أو قيمة الحوافز والمكافآت. الناس لا يهمها ان معدلات النمو قد ارتفعت، أو ان وصولها إلي 1.7٪ قبل الأزمة العالمية، يؤكد مدي قدرتنا علي النجاح. الناس لا يعنيها الارتفاع في حجم الاحتياطي النقدي، أو التحسن في الميزان التجاري. لكن ما يعني الناس هو أسعار اللحوم والدواجن والأسماك، وتوافر الخضر والفاكهة وفاتورة الكهرباء أو التليفون. أي ان اهتمامات الناس بالأرقام تتعلق بالأشياء المباشرة والمحسوسة في حياتهم. هذه الحقيقة قد تمثل في أحد جوانبها ظلما قاسيا في الحكم علي معدلات الأداء، أو النجاح الذي يحققه الاقتصاد. لقد جاء الاهتمام بإعادة بناء الاقتصاد المصري ليحتل المرتبة الأولي في اهتمام الرئيس مبارك، وأعتقد ان ملحمة اعفاء مصر من نصف ديونها الخارجية، أي ما يقارب 4.02 مليار دولار، تستحق منا وقفات كثيرة، تلقي الضوء علي جانب كبير من حقيقة النجاح الذي تحقق، والذي كان نتيجة مباشرة لجهود الرئيس مبارك، ومتابعته المباشرة لملف الديون، واستثمار كل علاقاته الخارجية ومصداقيته مع كل زعماء العالم، وتسخيرها لمصلحة بلاده. كثير من الناس، وحتي خبراء الاقتصاد، يتحدثون عن اسقاط نصف ديون مصر الخارجية، دون ان يعرف عدد كبير منهم حقيقة الجهد الذي تم لتحقيق ذلك، والذي كان يديره ويشرف عليه مباشرة الرئيس مبارك. والذي اتيح لي متابعته عن قرب داخل مجلس الوزراء، عندما كنت أقوم بتغطية أخباره.
لم يكن قرار اسقاط نصف الديون بناء علي مكالمة تليفونية، أو لقاء عابر بين زعيم مصر والرئيس الأمريكي، أو رؤساء الصناديق والمؤسسات المالية العالمية المقرضة، أو زعماء الدول الدائنة. لكنه كان ملحمة من العمل والجهد الشاق، الذي استغرق شهورا عديدة ومتابعة من الرئيس علي مدار اليوم، لكل المستجدات والمواقف من أجل تحقيق الهدف المنشود. وأعتقد جازما - ومن خلال رصد دقيق لتطورات ادارة ملف اسقاط نصف ديون مصر - أن هناك ثلاثة عناصر أساسية، شكلت في مجملها مواقف لن ينساها تاريخ مصر وشعبها للرئيس مبارك. مواقف ان كانت الأرقام تترجمها، إلا ان مغزاها الحقيقي يظل دائما في الرمز والمعني، ورسم خريطة تعاملات مصر المالية وفق مبادئ أساسية، هي تقليص الاعتماد علي الاقتراض من الخارج، والحد من الطلب المستقبلي علي العملات الأجنبية لسداد التزاماتنا، ووضع شروط وضوابط صارمة تكفل التزام أي جهة بأن تسدد ما عليها من قروض، دون اللجوء إلي الموازنة العامة للدولة. وهنا أود الاشارة إلي ان الحصول علي بعض القروض طوال فترة السبعينيات، كان أحيانا يتم باتفاقات ثنائية بين رؤساء شركات قطاع عام وبعض المؤسسات المالية، دون علم وزير المالية رغم ان السداد يتم عن طريقه، وتتحمل موازنة الدولة كل أعبائه وفوائده. كما شملت هذه الضوابط تنمية موارد النقد الأجنبي، من خلال خطط طموحة، تشمل قناة السويس والبترول والعمالة المصرية بالخارج والصادرات السلعية.
مواقف الرئيس مبارك الداعمة للسلام والاستقرار والتنمية، ونظرته الثاقبة في أن الحروب لا يمكن أبدا أن تحل المشاكل، وجدت صدي واهتماما من جميع دول العالم. لأن الحديث هنا صادر عن جندي مقاتل اشترك في العديد من الحروب، كان آخرها حرب أكتوبر التي قاد فيها أسراب النصر. وخلال السنوات الأولي لتوليه الرئاسة، نجح في إعادة علاقات بلده مع العالم العربي، وإقامة جسور علاقات قوية مع معظم دول العالم. وبدا واضحا للعالم كله ان مصر بقيادة مبارك بدأت مرحلة جديدة من إعادة البناء والإصلاح، وفي العديد من المواقف جاء تمسك مصر بالشرعية الدولية، ليكمل انطباعات العالم عن قائد جديد، يضع نصب عينيه تطوير وتحديث بلده، وتحقيق طموحات شعبه. هذا المناخ شكل فرصة مواتية لبدء الحديث مع العالم، حول ضرورة خفض نسبة من المديونية المصرية. كانت هناك 77 دولة مدينة، وتعاني مشاكل كثيرة في سداد التزامات وأقساط وفوائد ديونها، ومن بينها مصر. وقد لا يعرف الكثيرون ان مبدأ خفض المديونية كان مرفوضا، ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم يحدث اسقاط لأي مديونية، سوي في حالتين فقط.
كانت بولندا من الدول المدينة، والتي توقفت تماما عن سداد أقساط ديونها أو فوائدها، وعلمت الحكومة المصرية عام 0919، أن هناك مشروعا تعده الحكومة الأمريكية للعرض علي مجلسي النواب والشيوخ، يسمح بإعفاء بولندا من نصف ديونها. وعلمت مصر أيضا ان اتصالات مماثلة تتم بين واشنطن والدول الأخري الدائنة لبولندا، لاسقاط جزء من مديونيتها، وذلك تطبيقا لقاعدة اقتصادية في حسابات المديونية الدولية. عرضت هذه المعلومات علي الرئيس مبارك، والذي شكل فريقا اقتصاديا يخضع لاشرافه المباشر، وطلب إعداد ملف كامل عن المديونية وأعباء الأقساط السنوية، وتأثيرها السلبي علي عملية التنمية وإعادة البناء. ثم قام الرئيس مبارك بزيارة عمل سريعة للولايات المتحدة، كان من المقرر أن تتم نهاية عام 0919، والتقي مع الرئيس الأمريكي، في نفس الوقت الذي بدأ فيه الفريق المصري عمله الدءوب في إعداد ملف المديونية، وتقدير كامل لموقف أعضاء مجلسي النواب والشيوخ. وتمت الاستعانة بأحد بيوت الخبرة العالمية، لامداد الفريق المصري بجميع المعلومات والآراء، والتي مهدت كلها لمولد مشروع قانون أمريكي لاسقاط نصف مديونية مصر، وتم ذلك في زمن قياسي، وحتي يمكن عرض مشروع القانون قبل إجازة مجلسي النواب والشيوخ. تزامن مع ذلك دعوة عدد من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ لزيارة مصر، والتقوا مع الرئيس مبارك ووزراء المجموعة الاقتصادية، كما تمت دعوة عدد من مساعديهم يملكون قدرة التأثير عليهم. البعض يقول انها كانت نوعا من المفاوضات، والبعض الآخر يقول انها كانت معركة كاملة، استخدمت فيها مصر كل فنون ومهارات التفاوض والدبلوماسية والاقناع. كان الرئيس مبارك يتابع بنفسه، وعلي مدار الساعة، عمل هذا الفريق، ويعطي نصائحه وتكليفاته، ويضع سيناريوهات متوقعة لسير التفاوض، وكيفية التصرف في بعض المواقف. وشهدت هذه المرحلة مئات اللقاءات بين أعضاء الفريق المصري وكبار المسئولين الأمريكيين، بمن فيهم 05 من أهم أعضاء مجلسي النواب والشيوخ. وقام الرئيس مبارك بكتابة خطابات شخصية لهؤلاء النواب، لدعم الموقف المصري خلال طرح مشروع القانون. شكل الوفد المصري برئاسة الدكتور عاطف عبيد رئيس الوزراء، والدكتور يوسف بطرس غالي، الذي كان مستشارا لرئيس الوزراء الأسبق الدكتور عاطف صدقي، والسفير أشرف غربال سفير مصر السابق بالولاياتالمتحدة، وذلك استثمارا لعلاقاته المتميزة مع الأمريكيين، بالاضافة للدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس، والسفير عبدالرءوف الريدي سفيرنا بواشنطن. عقد الوفد المصري 55 اجتماعا خلال ثلاثة أيام، مع كبار الشخصيات المؤثرة في صدور قانون الاعفاء. استغرقت المناقشات النهائية لمشروع القانون 8 ساعات كاملة، بما فيها عملية التصويت، وطوال هذه الساعات ظل الرئيس مبارك يتابع الموقف وتطوراته لحظة بلحظة، مع الأخذ في الاعتبار فروق التوقيت، والذي امتد حتي ساعات الفجر. صدر القانون بعد مناقشات مستفيضة، وأسئلة واستفسارات كانت كلها متوقعة، وفقا لسيناريوهات كثيرة وضعها الرئيس مبارك، وتدرب عليها أعضاء الوفد المصري قبل المناقشة. عندما عاد الوفد لمصر، استقبلهم الرئيس مبارك قائلا لهم: الحمد لله. لقد نجحنا بفضل جهودنا ونبل غايتنا. أرجوكم لا وقت للراحة. سوف نبدأ علي الفور في معركة اقناع بقية الدول الدائنة لتفعل مثلما فعلت الولاياتالمتحدة. ويتكرر نفس السيناريو مع كل الدول الدائنة، ووفقا لطبيعة كل دولة وقوانينها. وخلال ثلاثة شهور، كان قد تم اسقاط نصف ديون مصر الخارجية، بما فيها الديون العربية. نعم، سوف يتوقف التاريخ كثيرا أمام محطات كثيرة في سنوات حكم الرئيس مبارك. الرئيس الذي وصل إلي قمة مجد العسكرية المصرية. وقبل أن يكون رئيسا، يكفيه فخرا أن يكون أول من طرق أبواب أعز وأغلي انتصاراتنا. يكفيه فخراً أن يحول خزانة خاوية ومثقلة بالديون، إلي احتياطي نقدي يقارب اليوم 35.2 مليار دولار، وبنية أساسية تتجاوز قيمتها مئات المليارات من الجنيهات.