أ. د. أحمد الطيب في خضم الأحداث التي عاشها الأزهر الشريف في الأيام الأخيرة، والتي أظهرت إجماعا وطنيا رائعا، علي حب الأزهر جامعا وجامعة، لم تصرفني هذه الأحداث عن التفكير في واقع أمتي العربية والإسلامية، وأطلتُ الفِكرَ في حِكمةٍ أبدأُ بها حديثي، فما وجدتُ حِكمةً أصدقَ في تصويرِ واقعِ هذه الأمةِ مِن حِكمةِ نبيِّها في قولِه الشريفِ: (( يُوشِكُ الأممُ أنْ تداعي عليكم كما تداعي الأكَلَةُ إلي قصعتِها، فقال قائلٌ: ومِن قِلَّةٍ نحنُ يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكُم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولَينزِعَنَّ اللهُ مِن صدورِ عدوِّكم المهابةَ مِنكم، ولَيقذِفنَّ الله في قلوبِكم الوهْنَ، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ، وما الوهْنُ؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموتِ)). لمَ صِرْنا غُثاءً كغُثاءِ السَّيلِ؟ سؤالٌ مُشكِلٌ، وإجابتُه أحفلُ منه بالإشكالِ؛ لأنَّها تَرتبطُ بمُفارقةٍ شديدةِ التناقضِ، وهي: مفارقةُ تخلُّفِ الأمتين العربية والإسلاميةِ وتراجُعِهما المستمرِّ، وانكسارِهما المتواصلِ، رَغمَ امتلاكِهما كلِّ الشروطِ اللازمةِ التي تُؤهِّلُهما لبناءِ نهضةٍ تقفُ بهما علي قَدمِ المساواةِ مع نهضاتِ الأممِ القويةِ في عالمِنا المعاصرِ. وقد شَغلَتني الإجابةُ عن هذا السؤالِ زمنًا طويلا كما شغلَت غيري مِن أبناءِ جيلي الذين دَرجوا في مراحلِهم العُمريةِ؛ وهم يُلاحِظونَ مسيرة أمّتَهم، وتساءلوا طويلا عن هذا الداءِ العُضالِ الذي أصاب هذه الأمةِ رغمَ أنَّ دواءَها موجودٌ عند أصابعِها. ولا أزعُمُ أنَّني في هذا الحديث سأحدِّدُ الداءَ بشكلٍ مُفصَّلٍ، فضلا عن وصفِ الدواءِ، ومِن ثَمَّ: فإنَّ ما أقرِّرُه لا يعدو كونَه شعورًا قلِقًا ومُتوتِّرًا، وربَّما يعكِسُ مِن الحزنِ واليأسِ أضعافَ ما يعكِسُ مِن التصدِّي والأملِ، وعُذري أنَّ واقع العالم العربي الإسلامي شديدُ القسوةِ، والمسرحَ العالمي عبَثيٌّ وكريهٌ وشديدُ الفَوضَي، ولأنَّ يقيني بالحكمةِ التي تقولُ: (( إنَّما بقاءُ الباطلِ في غفلةِ الحقِّ عنه )) يقينٌ لا يهتزُّ، فإنَّ الأملَ مازالَ مَعقودًا علي حُكماءِ هذه الأمةِ وعُلمائِها ومُفكِّريها، وأنَّ الخطوةَ الأولي في تصحيحِ الاتجاهِ إنَّما تقَعُ علي عاتِقِهم هم قبلَ غيرِهم مِن أولي الأمرِ وأصحابِ القرارِ. لو سُئلتُ عن رُؤيتي المتواضعةِ لهذا الموضوعِ المقلوبِ رأسًا علي عَقِبٍ؛ والذي تعيشُ فيه أمتُنا العربية والإسلاميةُ، فإنِّي أُلخِّصُها فيما يلي: أولا: برغمِ أنَّ كثيرًا مِن المفكِّرينَ يَضيقونَ ذَرْعًا بنظريةِ المؤامرةِ في تفسيرِ الانكسارِ المتواصلِ في هذه الأمةِ، فإنَّني أؤمنُ بنظريةِ المؤامرةِ هذه ضدَّ الإسلامِ والمسلمينَ، وبأنَّ الغربَ - بخاصةٍ الأنجلو أمريكي - مارَسَها - ولا يزالُ - ضِدَّ حضاراتِ الآخرينَ، معَ أنَّها حضاراتٌ أعقلُ وأبعدُ نظرًا، وأكثرُ احترامًا وتقديرًا لقِيمِ الإنسانِ مِن حضارتِه .. ولأنَّ الغربَ بَنَي حضارتَه الحديثةَ في غَيبةٍ مِن تعاليمِ الوَحْيِ وتوجيهاتِ السماءِ، فقد تشكَّلتْ هذه الحضارةُ في رَحِمٍ مُظلِمٍ ، مُترَعٍ بمآسي الآخرينَ وآلامِهم ومظالِمهم، ثم ما لبِثَت إلا بمِقدارِ ما يضمحِلُّ الآخَرُ أو ينتفي، ولا يَتعافي أحدُهما إلا رَيْثما يَمرَضُ الآخرُ ويعتَلُّ. وقد كَفانا مُنظِّرو هذه الحضارةِ مِن الغربيِّين أنفسِهم- وبخاصةٍ مُعاصروهم - مُؤنةَ البَرهنةِ علي هذه الدَّعوي، وبدءًا مِن إبادةِ الهنودِ الحُمْرِ إبادةً جماعيةً، وفي وحشيةٍ لم يعرِفْها تاريخُ الإنسانيةِ مِن قبلُ، وكذلك النِّخاسةُ وتجارةُ الرقيقِ في أفريقيا، ومرورًا باستعمارِ الشرقِ وتجزئتِه وتقطيعِ أوصالِه ونهبِ ثرواتِه، ثمَّ انتهاءً بالانقضاضِ عليه مِن جديدٍ. ومنذ سنواتٍ توقَّفتُ طويلا أمام ما بثَّته شاشاتُ التلفازِ مِن صُورِ حريقِ مكتبةِ بغدادَ وتدميرِ تراثِها ومخطوطاتِها، وسألتُ نفسي: لماذا حرَصَت الأصابعُ الخفيةُ علي تسليطِ الدَّهْماءِ لحرقِ الكتبِ والمخطوطاتِ؟ مع أنَّ حرقَ المخطوطاتِ لا يُضيفُ أيَّ مكسبٍ لهؤلاء، لا علي المستوي الاقتصاديِّ ولا الماديِّ ولا العسكريِّ؟ لكنَّه - ولكلِّ التأكيدِ - يُضيفُ الكثيرَ علي مستوي تدميرِ حضارةِ الآخَرِ، وتجريدِه مِن بُعدٍ أصيلٍ في بناءِ ذاتِه ومكوناتِ شخصيتِه. وهنا ينسجِمُ الفرعُ مع الأصلِ وتطَّرِدُ قاعدةُ المؤامرةِ والتآمرِ. ولعلي لا أجاوِزُ الحقيقةَ لو قلتُ: إنَّ هذه النظريةَ لم تعُد - الآنَ - مُؤامرةً ولا تآمرًا بعد ما أصبحَ اللعِبُ علي المكشوفِ - كما يقالُ - وبعد ما رأينا بأمِّ أعينِنا جيوشَ الغربِ الأنجلو - أمريكي المدججةَ بآلاتِ القتلِ والدمارِ، وتقطَعُ آلافَ الأميالِ لتغزوَ دولا شرقيةً، وبحججٍ واهيةٍ ذكَّرتْنا بالحججِ ذاتِها التي قدَّمَها الغربُ في القرنِ الماضي بين يَديْ حملاتِه التي جرَّدَها لغزوِ بلادِ المسلمينَ، وكنَّا نظنُّ أنَّ الصورةَ الكريهةَ للحملاتِ العسكريةِ التي تُجرَّدُ لغزوِ دولةٍ ضعيفةٍ قد ولَّت علي غيرِ رجعةٍ مِن قرنٍ مضي، وأصبحت أسلوبًا بربريًّا همجيًّا تترفَّعُ عنه الدولُ المتحضِّرةُ، تلك التي تملأُ الدنيا صِياحًا ونُواحًا علي غِيابِ الديمقراطيةِ وحقوقِ الإنسانِ. ثانيًا: مع إيماني بنظريةِ المؤامرةِ هذه، فإنَّني لا أتَّخِذُ منها مِشجبًا أُعلِّقُ عليه مسئوليةَ تخلُّفِ الأمةِ وهوانِها علي الأممِ، بل أري أنَّ تصرُّفَ الغربِ يتَّسِقُ منطقيًّا مع الفلسفةِ البنائيةِ التي اختارَها لتشكيلِ حضارتِه. وإذن فموردُ البحثِ يجبُ أن ينحصِرَ في ذِهنيةِ الأمةِ الإسلاميةِ والسلوكِ الذي يُترجِمُ عن هذه الذهنيةِ، وكما قلتُ مِن قبلُ: ليس لديَّ جديدٌ يُمكنُ أنْ يُضافَ إلي ما تَعلَمونه، ومَردُّ ذلك إلي أنَّ كلَّ الاحتمالاتِ العقليةِ وغيرِ العقليةِ قُتلِت بحثًا ونِقاشًا في مُؤتمراتٍ وندواتٍ ولقاءاتٍ وكتبٍ ودورياتٍ ، وإن كان منهجُ البحثِ عنها كثيرًا ما كان يأخُذُ طابَعَ الصراعِ بين الباحثينَ، وفي قضايا إن تكُن خلافيةً فإنَّها - وبطبيعتِها أيضًا - تتَّسِعُ للاختلافِ، ولكن ضِمنَ إطارٍ كليٍّ يُمكنُ الاتفاقُ عليه. واسمحوا لي - أيُّها السادةُ القراء - أنْ أنقُلَ لكم بعضًا مِن نصوصِ أحد دعاة النهضة في عالمنا العربي والإسلامي، هو السيد عبد الرحمن الكواكبي، الفيلسوفِ البصيرِ بعِللِ أمتِه؛ لنُدرِكَ أنَّنا - فِعلا ذ أمةٌ بلا ذاكرةٍ كما ينَعتُنا أعداؤنا - يقول رحمه الله- : (( أقولُ وأنا مسلمٌ عربيٌّ مُضطرٌّ للاكتتامِ: أنَّني هجرتُ دياري في الشرقِ، فزُرتُ مِصرَ ، فوجدتُ أفكارَ سُراةِ القومِ في مِصرَ، كما هي في سائرِ الشرقِ ، خائضةً عُبابَ البحثِ في المسألةِ الكُبري، أعني: المسألةَ الاجتماعيةَ في الشرقِ عمومًا وفي المسلمينَ خصوصًا، إنَّما هم كسائرِ الباحثينَ- كلٌّ يذهبُ مذهبًا في سببِ الانحطاطِ وفي ما هو الدواءُ ، وقد تمحَّصَ عندي أنَّ أصلَ هذا الداءِ هو الاستبدادُ السياسيُّ، ودواؤُه دفعُه بالشُّوري الدستوريةِ، وقد استقرَّ فِكري علي ذلك ( كما أنَّ لكلِّ نبأ مستقرًّا ) بعد بحثِ ثلاثينَ عامًا بحثًا أظنُّه كادَ يشمَلُ كلَّ ما يخطُرُ علي البالِ؛ مِن سببٍ يتوهَّمُ فيه الباحثُ عند النظرةِ الأولي أنَّه ظَفرَ بأصلِ الداءِ أو بأهمِّ أصولِه ، ولكن لا يلبَثُ أنْ يكشِفَ له التدقيقُ أنَّه لم يظفَرْ بشيءٍ، أو أنَّ ذلك الأصلَ أو هو نتيجةٌ لا وسيلةٌ . والواقعُ والتاريخُ كلاهما يُصدِّقُ الكواكبيَّ فيما يقولُ، فالاستبدادُ يهدِمُ العِلمَ ، ويضرِبُ التنميةَ والترقِّي في مَقتلٍ يُفسِدُ التربيةَ، ويُفرِّغُ التعليمَ مِن مضمونِه. ولعلِّي لا أجاوزُ الحقيقةَ لو قُلتُ إنَّ أحدًا لا يُمكِنُ أنْ يَتماري الآنَ وبعدَ مائةٍ وثلاثينَ عامًا؛ أنَّ الجرثومةَ التي نبَّه الكواكبيُّ إلي خطرِها القاتلِ هي ذاتُ الجرثومةِ التي كلَّفَت الأمةَ كلَّها ثمنًا غاليًا، دفَعَته مِن كرامتِها وقوتِها واقتصادِها وأجسادِ أبنائِها. ثالثا - وأخيرًا-: إذا كانت دِراسةُ الكواكبيِّ قد انتهت إلي مرضِ الاستبدادِ، فإنَّ دراساتٍ حديثةً عديدةً تنبَّهت إلي خطرِ التجزئةِ القُطرِيةِ، ورَأتْ فيها كارثةً أكبرَ مِن كارثةِ الاستبدادِ. وتُقرِّرُ هذه الدراساتُ وبحقٍّ أنَّ قوةَ الدولةِ العبريةِ رَهْنٌ باستمرارِ هذه التجزئةِ، وأنَّ هذه الدولةَ بملايينِها الأربعةِ أو الخمسةِ ما هَزمَت مائتي مليونِ عربيٍّ، ومِن ورائِهم ألفُ مليونِ مسلمٍ ، فهذه مُغالطةٌ تكمُنُ في أنَّ التجزئةَ القُطرِيةَ والتشظِّي العربيِّ لم يسمَحْ أيٌّ منهما بوَحدةِ المليونِ عربيٍّ قطُّ، بل شلَّ كلٌّ منهما حركةَ الدولةِ العربيةِ، بل حركةَ القُطرِ العربيِّ الواحدِ في المواجهةِ. إنَّ مخطَّطَ التجزئةِ وتفتيتِ العالَمين العربي والإسلاميِّ مِن جاكرتا إلي طنجة؛ إلي كِياناتٍ عرقيةٍ طائفيةٍ وقومية، كلٌّ منها يُصارِعُ الآخَرَ، هذا المخطَّطُ موجودٌ في أجندةِ الصهيونيةِ العالميةِ منذُ أربعينياتِ القرنِ الماضي، وقد كَتبَ عنه المستشرقُ الصهيونيُّ برنارد لويس Brnard Lewis وتحدَّثَ عن كلِّ بلدٍ مِن البلادِ الإسلاميةِ، فاقترحَ تفتيتًا سياسيًّا يُضيفُ إلي ما صنعته اتفاقيةُ سايكس بيكو 32 كِيانًا سياسيًّا جديدًا، وقال عن هذا المخططِ: (( إنَّه الضمانُ لأمنِ إسرائيلَ، وإنَّه أكثرُ جَدوي مِن أيَّةِ حدودٍ، بل ومِن القنابلِ الذريةِ؛ لأنَّه يُحوِّلُ العالَمَ الإسلاميَّ إلي كِياناتٍ ورقيةٍ هشَّةٍ تجعلُ إسرائيلَ هي الأقوي وسطَ هذه الكِياناتِ)) . لعل القراء يتفقون معي في أنَّ أحاديثَ المجاملاتِ لم يعُدْ لها معني ، وأنَّه لا بد مِن المصارحةِ. - ولا مفرَّ لنا مِن التفاهم بين علماءِ الأمةِ وحُكمائِها، وبين مراكزِ صُنعِ القرارِ فيها. - ولا مفرَّ لنا مِن مشروعٍ ثقافيٍّ حضاريٍّ نختلفُ في داخلِه، ولكن نلتقي جميعًا عند حدودِه الخارجيةِ. - لا مفرَّ لنا مِن التفاهم بين كل مكونات النسيج الوطني لمختلف الأقطار الإسلامية. - ولا مفرَّ مِن الالتقاءِ والتعاون مع كل أحرار العالم لما فيه خير الإنسان والإنسانية . وتَبقي قائمةٌ طويلةٌ بهذه اللامفرَّات، لو رُحتُ أكرِّرُها علي مسامعِكم كنتُ كمَن يبيعُ الماءَ في حارةِ السقَّائين. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: 5، 6 ط. بيروت: 1980م ( بتصرف).