الكتاب يروي فيه سيرته الذاتية من خلال رسوماته ولوحاته لكبار المشاهير في مصر والعالم ، فلم يكن الفنان سيد عبد الفتاح فنانا محليا وإنما كانت ريشته تمارس الفن بكل أشكاله في كل أنحاء العالم بين ملامح الوجوه والأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفنية وفي كل المجالات علي مدي مشوار عمر طويل في بلاط صاحبة الجلالة. الفنان العاشق عشق الفن التشكيلي ورسوم الكاريكاتير ، فصار احد كبار فناني البورترية في مصر، عاش في عالمه الخاص يرسم ويكتب أحيانا مثله مثل كثير من الفنانين التشكيليين الذين احترفوا الكتابة بجانب الرسم ، ولا اعرف ما هو السر في أن معظم الفنانين التشكيليين أجادوا الكتابة مثل الرسم تماما أمثال بيكار وصلاح جاهين وغيرهما ولم يستطع كثير من الأدباء والشعراء ممارسة الرسم ؟! . كان الفنان سيد عبد الفتاح يمارس الكتابة هاويا وليس محترفا وعندما اقترحت عليه أن يدون مذكراته مصحوبة بقصص حول رسوماته وتاريخه الإبداعي كان مترددا ، ولكنه في نهاية أيامه اقتنع بالفكرة وفاجئني كعادته معي بأفكاره المتألقة دائما بأنه بصدد إصدار كتاب جديد ، وبأنه قد اختار له عنوانا "أوراق رسام صحفي " وأعجبني العنوان وأعجبتني أكثر الفكرة التي اقتنع بها واتخذ قرار كتابة مذكراته بالرسومات وحكاياتها في حياته التي تمثل فترة مهمة في تاريخ الصحافة المصرية ، حيث انه بدأ حياته الصحفية مع الصحفي والكاتب الكبير مصطفي أمين الذي كان من اشد المعجبين به وبرسوماته منذ كان شابا صغيراً يحمل أوراقه وأقلامه وفرشاته يجوب بهم طرقات صاحبة الجلالة التي احتضنته وفتحت له ذراعيها بالترحاب فمنحها هو كل الجهد والحب والصحة . كان يقول لي مداعبا: هل ستكتبين عني في صفحة الكتب عندما انتهي من كتابي ؟! وعندما كنت لا أجيب عليه !كان يكرر أنا لا اريد أكثر من خبر في ثلاثة سطور في فقرة الجديد في شارع الكتب مع نشر صورة للغلاف لو تفضلتي وإشارة صغيرة عني !وكنت اصرخ في وجهه ستكون لك صفحة كاملة !ولم أكن ادري ولا هو يدري أيضا إني سأكتب عنه صفحة كاملة انعيه فيها بالكتاب الذي لم يكتمل !ولم أكن أتصور انه لن يري ما سأكتبه عنه لأول مرة منذ أن عملنا سويا في صفحة " كلام في الكتب" منذ عام تقريبا.. ففي هذه الأيام يمر عام علي بداية صفحة كلام في الكتب الذي شرفت من الكاتب الكبير ممتاز القط رئيس التحرير بالإشراف عليها واعداها بمشاركة زميلي الراحل سيد عبد الفتاح. وكنت أنا وزميلي قد اعددنا عددا خاصا ننشر فيه أهم الكتب والرسومات التي حازت علي إعجاب القراء علي مدي عام ولكن سيد رحل بلا وداع لأول مرة دون أن يخبرني برحيله الأبدي وها أنا وحدي أواصل مسيرة الصفحة التي هي جزء من حياتي . كذبة أبريل هذه بعض الرسومات المفضلة للفنان الراحل سيد عبد الفتاح في فن البورترية وفي فن الكاريكاتير وبعض القصاصات التي كان ينوي أن ينشرها في مجموعة قصصية منفصلة ففي قصة بعنوان " كذبة ابريل " كتب يقول : غداً أول أبريل .. تاريخ يعني للجميع يوماً مفتوحاً للكذب !! وفي طفولتي رباني أبي وعلمني أول دروس الحياة مؤكداً أن " المسلم لا يكذب ". لهذا السبب كرهت ذلك التاريخ الأول من أبريل فهو يوم المداعبات السخيفة المغلفة بغلاف أسود عنوانه " كذبة أبريل " !! مع تكرار السخافات التي يسمونها أكاذيب بيضاء ، أصبحت لا أصدق مايقال أو يتردد في الأول من أبريل من كل عام ! .. مردداً علي مسامع أقراني كلمات أبي المتضمنة الحديث الشريف : " المسلم لا يكذب " . .. التاريخ هو: الأول من أبريل عام 1978 .. إتصل بي من يقول : البقاء لله .. لقد مات والدك! .. للحظات .. فقدت القدرة علي النطق !فأعاد محدثي كلماته !! قلت في رجاء : أنا أعلم أن اليوم هو أول أبريل .. وأن ماتقوله هو كذبة أبريل .. أليس كذلك ؟ .. ولكن الحديث الشريف يقول أن المسلم لا يكذب .. رد في أسي : شد حيلك ! أول أبريل 1978 .. مات أبي .. حقيقة ً !بل لعلها الحقيقة الوحيدة في هذا التاريخ .. .... ولكني أعترف .. كم تمنيت أن تكون هذه الحقيقة بالذات " كذبة أبريل ". المصروف وفي قصة قصيرة اخري تحت عنوان " المصروف " كتب يقول: يري صاحبنا في نفسه شخصية غريبة حقاً ! متناقضة جداً !فذاكرته التي أصابها الزهايمر ينسي بسببها بعض الأحداث فور حدوثها !ولكن لحكمة لايعلمها منحه الله ذاكرة ثانية تختلف تماماً عن الأولي .. حتي أنه يراها بالفعل وكأنها " كارت ميموري" يستدعي من خلالها أحداثاً عاشها دون مبالغة قبل أن يتعلم النطق!! ذاكرة يعيش بسببها حالتين متناقضتين . فتارة يمر أمام عينيه مشهداً أو تتطرق إلي أذنيه كلمة فيتذكر لحظات سعادة غامرة مضت عليها سنوات طويلة .. وتارة أخري يحدث العكس فيدهمه الأسي وتقتله المرارة!. ساعتها يسأل نفسه .. هل هو إنسان " غاوي نكد " ؟ أم أن النكد هو الذي يهواه ويصر علي مصاحبته وملازمته ؟ هذا ما حدث معه اليوم !! في غمار لحظات السعادة بلقاء حبيبته ، داعبته ضاحكة بعبارة جاءت في محتواها كلمات " الحرمان من المصروف " .. فقفزت علي سطح ذاكرته الثانية أحداث لا ينساها !.. كان طفلاً صغيراً لايزال في مرحلة التعليم التمهيدي قبل الإبتدائي يتعلق بيد أبيه الذي يصحبه يومياً إلي مدرسته .. ويضع في يده قبل أن يتركه المصروف الضئيل المعتاد .. فيتناول مصروفه راضياً قانعاً سعيداً .. فقد كان شديد التعلق بأبيه الطيب .. يحبه بشكل مختلف عن أخويه ، لذا أطلقت عليه أمه دون غيره لقب كان يسعده سماعه عندما تقول عنه :" إبن أبوه!! في هذا اليوم قال والده كلمات قليلة غير مباشرة لايدري هو كيف فهم منها أن أبيه يمر بأزمة يصعب معها تدبير هذا المصروف !.. ولا يدري أيضا كيف قتله هذا الإحساس بأزمة والده ! أمام باب المدرسة أمسك الأب بيد إبنه ليضع في كفه الصغير مصروفه .. ففوجئ الأب بانتفاض الطفل الذي سحب يده بعيداً رافضاً هذا المصروف !! المفاجأة تثير دهشة الأب .. يحاول الإستفسار فلا يجيب الطفل .. يلح الأب في السؤال ، ويلتزم الإبن الصمت .. ومع إلحاح الأب يختنق الطفل فينفجر باكياً!! لأيام عديدة تالية يعيد الأب محاولاته لإقناع الطفل بقبول المصروف .. ويزداد في الوقت نفسه إصرار الطفل علي الرفض !وتتوقف محاولات الأب أمام دموع طفله ! هكذا كانت نهاية عهد " صاحبنا " وللأبد بالمصروف !! " صاحبنا " لم يكن طفلاً تغريه قطعة حلوي ولكنه كان طفلاً يقتله إحساسه بفقر والده وقلة حيلته ومع ذلك يذوب حباً فيه ، بل لعله كان يشعر أحياناً أنه أباً لأبيه !!! لهذا اختزل أحلامه واختار لحياته طريقاً مختصراً متواضعاً كان علي حد تفكيره وفهمه هو الطريق الوحيد المتاح لتخفيف الأعباء عن والده ! بعدها ودون تخطيط مسبق منه ترك نفسه لأقدارها .. مرها وحلوها!! لعبت الأقدار لعبتها مع مرور السنوات .. فتغيرت مسارات حياته بصورة قدرية وبشكل لافت ومثير!! نجح ، تفوق .. كل من حوله يري ذلك ! ويُرجعون نجاحه لحسن أدائه ولكنه وحده يعلم السر فيُرجع بكل اليقين الفضل لأبيه الذي مات راضياً عنه ، داعياً له . ورغم مرور عشرات السنين علي رحيل الأب مازالت تدمع عينيِّ " صاحبنا " كلما جاء ذكره ! شيئ واحد مازال " صاحبنا " يبحث عنه دون جدوي .. لم يجد أبداً بين الأطفال كل الأطفال طفلاً واحداً يري فيه طفولته .. لم يجد طفلاً يرفض المصروف .. ويبكي إصراراً علي الرفض !