في قرون سابقة انتهجت الجيوش سياسة الحصار حتي تنتصر في المعارك مع الأعداء ولكن حروب اليوم اضفت صبغة أخري لاإنسانية عندما استخدمت الأطراف المتصارعة والأنظمة المستبدة سلاح التجويع لإخضاع المعارضين أو لتغيير ديمغرافية المكان - فسلاح التجويع هو جريمة قتل مكتملة الأركان تحدث يوميا في المناطق المحاصرة حتي وصلت إلي حد التطهير العرقي وتفريغ الأوطان من شعوبها. لم تكن مضايا السورية البلدة السورية الوحيدة التي يموت أهلها من الجوع فهناك نحو 52 منطقة محاصرة منها 49 منطقة تحاصرها قوات الرئيس بشار الأسد ومنطقتان تحاصرهما قوات المعارضة ومنطقة واحدة تخضع لحصار داعش. وتشير هذه الأرقام إلي جريمة أخري تضاف إلي سجل جرائم النظام السوري الذي يخوض حربا مع شعبه منذ 5 سنوات ارتكب فيها كل انواع الجرائم واستخدم فيها كل انواع الأسلحة..لتبدأ سوريا عامها الجديد بمشاهد اكثر بؤسا وألما من سابقاتها والعالم يتابع تلك الهياكل العظمية لبقايا بشر يتوسلون طلبا للقمة عيش قبل ان يموتوا جوعا. ووفقا لمنظمة الأممالمتحدة يعيش 4.5 مليون سوري تحت الحصار في مناطق يصعب الوصول إليها. لذا فقد قتل الجوع حتي الآن 560 شخصا مات بعضهم جوعا والبعض الآخر بسبب الغذاء الملوث الذي اضطروا لتناوله كي لا يموتوا. وقد كشف حصار مضايا عن التواطؤ الدولي والأممي في تفاقم أزمة السوريين المحاصريين فتحدث الحقوقيون عن مقر الأممالمتحدة الذي يبعد مسافة دقائق عن بعض البلدات المحاصرة مثل الغوطة ودوما وعجز عن انقاذ الجوعي والمرضي من الموت. واذا كانت مضايا نجحت في ان تفك حصارها بعض الوقت الذي ربما لا يتعدي الشهر فهناك مناطق اخري كثيرة تعيش تحت الحصار منذ سنوات ويموت اهلها جوعا ومرضا ولم يتحرك لانقاذهم أحد مثل مخيم اليرموك الفلسطيني الذي تحاصره قوات الاسد منذ 3 اعوام والذي قتل فيه حتي الآن اكثر من 1100 شخص من بين مليون فلسطيني يعيشون فيه. وبعد سقوط المخيم في يد داعش ظل يعاني من انتشار الأوبئة بين الأهالي لنفاد ادوية الأمراض المعدية، مع استمرار الحصار علي المخيم. فتفشي التيفود واليرقان وأمراض الكلي والجهاز التنفسي. وهناك ايضا منطقة داريا المحاصرة هي الأخري منذ 3 أعوام والتي يسكنها نحو4000 سوري، ولم تصل هذه المدينة أي مساعدات من هيئات الأممالمتحدة منذ أكتوبر 2012.. ومنطقة الغوطة الشرقية المحاصرة هي الاخري منذ 3 سنوات ويعيش فيها 180 ألف وقرر النظام الا تصلها اية مساعدات منذ شهرين. كما تحاصر قوات النظام السوري حي الوعر في حمص، واشترط النظام انسحاب قوات المعارضة منه حتي يتم فك الحصار. وهناك 150 الف سوري محاصرون في وادي بردي بالقرب من دمشق، وسمحت القوات المتواجدة علي أطراف الوادي بمخرج واحد يصل الموظفين والطلاب بالعاصمة دمشق في حين غير مسموح بإدخال الكميات اللازمة من الطعام. وتشارك قوات حزب الله النظام السوري في حصار المناطق السورية كما هو الحال في الزبداني التي هرب سكانها من القتال وحوصر الجميع في مضايا التي امتلأت حدودها بالألغام والقناصة ليقتل فورا كل من يحاول الهرب من الحصار. ولأن جميع الأطراف في سوريا اتفقت علي ان الحصار اللانساني هو الحل تحاصر قوات المعارضة مناطق النبل والزهراء في حلب والتي يعيش بها 60 ألف سوري ولم تتمكن طائرات النظام من انزال المساعدات إليهم ، كما تحاصر قوات المعارضة منطقتي الفوعا وكفريا في محافظة إدلب، حيث يفرض جيش الفتح حصارًا علي المدينة منذ عدة أشهر وبها نحو 13 ألف سوري وحاولت الأممالمتحدة إدخال مساعدات إلي المدينة عدة مرات ونجحت في ذلك لكنها فشلت في فك الحصار عنها، كانت آخر هذه المساعدات التي دخلت باتجاه الفوعا وكفريا منذ يومين بالتزامن مع محاولة فك الحصار عن مضايا. أما تنظيم داعش فلا يحاصر سوي مدينة واحدة هي الزور التي يسكنها 200 ألف سوري وتعد ساحة للمواجهة بين الأطراف الثلاثة قوات النظام والمعارضة وداعش مما يضاعف من معاناة اهلها. وبالحديث عن مليون سوري مهددين بخطر المجاعة في كل تلك المناطق المحاصرة يشير النشطاء إلي تضاعف العدد الذي تجاوز مناطق أخري لم يصل لها الإعلام والمنظمات الإنسانية. ولا يقتصر الحصار علي المدن السورية حيث تعيش مدينة تعز اليمنية نفس المعاناة والتي يحاصرها الحوثيون منذ اشهر ومنعوا عنها كل شيء فاضطر الاهالي ان يسلكوا طرقا وعرة في الجبال كي يحصلوا علي الغذاء والوقود في رحلات محفوفة بالمخاطر. وليس التجويع فقط هو السلاح الذي استخدمه الحوثيون ضد اهالي تعز بل مازال يدك المنازل والطرقات بصواريخه التي تحصد ارواح الأبرياء يوميا. ونجحت السعودية في فك جزئي لهذا الحصار حيث قامت قبل ايام بعملية انزال لمواد غذائية وطبية لأهالي المدينة. وتعيش العراق التجربة الأكثر قسوة في تاريخ الحصار والتجويع فقد ذاقت مرارة الحصار لسنوات طويلة منذ عهد الرئيس السابق صدام بعد ان فرض المجتمع الدولي عليها حصارا اقتصاديا خانقا بعد غزوها للكويت في ظل برنامج النفط مقابل الغذاء والذي ادي لوفاة الآلاف من الاطفال واصابتهم بأمراض سوء التغذية. وبعد الغزو الامريكي فرض حصارا اخر من المحتل لاخضاع مناطق المقاومة ومات الآلاف ايضا وبعد رحيل الاحتلال سقطت العراق مجددا في حصار طائفي ثم حصار داعش وحتي الحصار الحكومي الذي اغلق المدن العراقية في وجه آلاف من النازحين الذين لم يجدوا مأوي ومازالوا عالقين حتي الآن في الصحاري العراقية دون ان تصلهم أية مساعدات. وهنا تستوقفني حقيقة ان العراق والشام اطعموا أوروبا وآسيا قبل قرن من الزمان ابان الحرب العالمية الاولي والثانية وانقذوهم من المجاعات التي اودت حينها بحياة الملايين نتيجة لقرارات سياسية خاطئة كان اغلبها لزعماء قتلوا شعوبهم. ووفقا لاتفاقية جنيف لحقوق الانسان يعد الحصار والتجويع جريمتين ضد الانسانية ومن جرائم الحرب التي يعاقب عليها القانون الدولي الذي ينص علي ضرورة وجود ممرات آمنة في كل مناطق الصراعات لإيصال المساعدات الطبية والمواد الغذائية لسكان تلك المناطق ، ومع ذلك لم يعاقب هذا القانون علي مر التاريخ أيا من هؤلاء المستبدين القتلة علي تجويع شعوبهم ومن الغباء ان ننتظر ان يعاقبهم اليوم.