د. فوزى فهمى كنت حريصا علي الاستماع إليه دون أن أناقشه، لكن شيخي أنكر علي غيابي عن الحوار، محذرا إياي من أن أظل صامتا كالعمود، ثم نبهني أن الوجود لا يتحرك ولا يتغير إلا بالحوار المولد للابداع، المحقق للمأمول، وأن العقل ينمو في طريق التقدم بالحوار، والانفتاح علي الاختلاف، وأن لا شيء يؤكد قيمة الإنسان ويحميه إلا محاولات اقتداره علي الفهم والحوار.. تجلت دلالة فيض شيخي حين راح يوفر لي جسرا عمليا، يمنحني امكانية تثير لدي ممكنات الحوار معه، دون الاصطدام بأية معوقات، وذلك بأن اضفي علي علاقتي به ظلال حيزه الاجتماعي والشخصي، حيث ألغي كل حدود الأنماط الرسمية بيننا، مبديا المؤازرة الودودة، المكيفة ثقافيا، والمقرونة بنصيحته ضد استبداد الصمت، إذ كان يري أننا نصبح مسئولين عن استمرار تحكم الأفكار الخاطئة في حياتنا، حتي تغدو سلطة نافذة تحتل مكانها في دائرة المعهود، نتيجة صمتنا في مواجهتها، وعدم شحذنا العزم علي تصحيحها، وعند فشلنا مرة نفقد الإصرار علي تصويبها. صحيح انني لم أعد ثانية إلي حقبة استبداد الصمت، إذ جذبني الحوار مع شيخي إلي مسارب متنوعة، دفعتني إلي قلب سجالات انضجت خياراتي، وصحيح أن الراحل الجليل لم يكن يفض الاشكالات التي أحملها إليه، وإنما كان يعيد بسطها للنقاش والمحاجة بيننا، حرصا علي تفعيل وعيي الذاتي بالقضايا والمشكلات، لكن الصحيح كذلك أنه بعد رحيل شيخي الجليل الدكتور محمد مندور، في التاسع عشر من مايو عام 1965، داهمتني حيرة انصبت علي موضوع قائم، صدر عن »الاتحاد الاشتراكي«، تبدي اختبارا لمدي التطابق بين المفهوم الذي طرحه شيخي عن استبداد الصمت، وخطاب الواقع المعيش. بعد حظر قيام الأحزاب السياسية عام 1953، اصبح ثمة فراغ سياسي، استلزم البحث عن البديل الوطني القادر علي مواجهة تحديات التاريخ، لذا انشأت ثورة يوليو تنظيمات غير حزبية، بدأت ب»هيئة التحرير«، عام 1953 التي تطورت إلي »الاتحاد القومي« عام 1957 الذي انتهي بدوره إلي »الاتحاد الاشتراكي« عام .1962 تفاوتت تقديرات نخبة المجتمع المصري في شأن التحزب السياسي، إذ ارتفعت أصوات تطالب بالسماح بتعدد الأحزاب، داخل اللجنة التحضيرية لمناقشة مشروع الميثاق الوطني عام 1961، في حضور الرئيس عبدالناصر الذي أجاب علي نحو قاطع، أن السماح بعدة أحزاب، معناه إنشاء حزب رجعي مرتبط بمصالح الامبرياليين، وحزب آخر شيوعي تابع للكرملين، وفي هذه الحالة سيضيع الوطنيون بين الحزبين المرتبطين بالخارج. أصبح »الاتحاد الاشتراكي«، التنظيم البديل عن الأحزاب، وأقصي عن عضويته كل من ارتبط بتلك الأحزاب، وكان شيخي بكل تاريخ عذابات نضاله ضد الفساد، مشمولا بذلك الإقصاء. تصدي »الاتحاد الاشتراكي«، لمجموع الممارسات المنظمة والمتعلقة بتوزيع السلطة السياسية، ومتابعة أمور الشأن العام، وانطلاقا من ذلك طرح عام 1966، ما سمي ب»ميثاق المثقفين«، حيث جاء في تقديمه أنه حصاد ما انتهت إليه أمانة الفكر والدعوة بالاتحاد الاشتراكي، عندما قرأته، وجدته انتحالا تاما لفقرات كاملة ومتعددة، من كتاب »حول الأدب والفن« للزعيم الصيني »ماوتسي تونغ«، بالطبع دون الاشارة إلي ذلك. كتبت مقالا فندت فيه بالمضاهاة الفقرات التي جري الاستيلاء عليها واقتناصها، وحرمانها من أية صيغة اعتراف علني بمصدرها، واقترحت أنه كان يمكن النأي عن ذلك، بطرح النص الأصلي علي المثقفين المصريين، للاستهداء به بوصفه من مكتسبات تجربة أمة أخري، حيث يمارس المثقفون المصريون فحصهم للجهاز المعرفي، والظروف التي انتجت تلك المفاهيم الواردة في النص، لتحديد نقاط التعارضات، والاتفاقات، تحررا من اكراهاته. صودر المقال، بل رأيت كيف أن سلطة الحق يجري دفنها أمامي دون خجل، فتقاذفتني أعاصير الثلج، وانصبت علي رأسي براكين لهب، وتصدعت ذاتي، وانكسرت علاقتي بها، إذ غابت عنها حريتها، وفقدت شعور الامتلاء بها، وعجزت عن ممارستها، فراحت دموعي تنهمر، علي الفور استعدت ما تعرض له شيخي الجليل عام 1958، عندما اتجالهوا اسمه ضمن الوفد الرسمي المصري، للمشاركة في مؤتمر الأدباء بالكويت، وأدرك الكويتيون معني غياب شيخ نقاد مصر بقامته وتاريخه، فأرسلوا إليه دعوة خاصة، وتوجه للحصول علي تأشيرة الخروج، ففوجيء أنه ممنوع من السفر، ساعتها بكي شيخي الجليل، وظلت هذه الواقعة واحدة من المستغلقات لدي، والمرصودة للكشف. بعد مرور سنوات، سألت شيخي تفسيرا للبكاء، وكعادتي معه، رحلت استظهر أمامه مقولة من مسرحية »كاليجولا«، للكاتب ألبير كامي، ترتبط بموضوع سؤالي، فهمست مرددا: »أو لا تستطيعين أن تتصوري أن يبكي الرجال لغير شيء سوي العشق؟ إنما يبكي الرجال عندما تكون الأمور علي غير ما ينبغي أن تكون«. تأملني شيخي طويلا ثم قال لي: غياب احساسك بحريتك، هو غياب معني وجودك، أفلا يعني ذلك أن الأمور علي غير ما ينبغي أن تكون؟ أنا لا أخجل من دموعي، فأنا بشر، أنا بكيت من مهانة أني مسترق، لا أملك حريتي، ولا أدري لم. إن قرار الاسترقاق يؤكد أن الذي اصدره علي يقين أني ملك يده، أتراه يدرك أن الحرية أخص ما يكونه الإنسان، وأغلي ما يمتلكه، كانت كلمات شيخي درسا مشحونا بطاقة الإنسان المدرك أن جوهر وجوده في حريته، وأن الوجود بالأساس إرادة وقصد، وصحة ذلك غير مقرونة بتغير الظروف. أعلن »الاتحاد الاشتراكي«، عن ندوة حول »ميثاق المثقفين«، فهرعت إليها مع ثلاثة من أصدقاء عمري، وألقيت بقاذفة فضح التضليل، صحيح أنني بعد ذلك عايشت فترة من القلق، إذ لا شيء كان يطامن من سلطة ذلك التنظيم، لكن الصحيح أن أحد المواطنين الشرفاء همس في اذني أنه عليّ أن أرسل ما قلته فورا إلي الرئيس عبدالناصر، وهكذا فعلت، ومن بعد ذلك لم يعد هناك حديث عن ذلك الميثاق، سلاما عليك يوم ذكري رحيلك، أيها الثائر ضد الاسترقاق، المناضل من دفاعا عن الحرية التي تغير خارطة الوجود.