مرتان انتحبت أمي، الأولي يوم رحيل « أبو خالد»، والثانية يوم رحيل « أبو مجدي »، الأخير والدي الذي رحل راضياً مرضياً يتشوق للقاء ربه، وجنة عرضها السموات والأرض، والأول « أبو خالد «، عود الفل، شاركها النحيب نسوة مصر جميعا، مصر تنتحب، سورية تنتحب، جبل لبنان ينتحب، العرب جميعا ينتحبون، بحر من الدموع يصل ما بين المحيط والخليج، لم تبك أمة ابناً مثلما بكت جمال عبد الناصر. «يا خالد روح قول لأبوك 100 مليون بيودعوك»، كان الهتاف مبللاً بالدموع، وكانت أمي تجر صغيرها يمسك بتلابيب ذيل جلبابها الأسود، وهي تهرول وراء نعش يشق حواري بلدتنا الغارقة في الحزن، كان الرجال علي كلمة سواء، لا إله إلا الله..وعبد الناصر حبيب الله، سمعت نواح الثكلي في الجوار يقطع نياط القلوب، وكلمات بعينها تمزق غشاء القلب، كلمات ليست كالكلمات، تقال فقط في فقد عزيز، غالٍ، حبيب، أب، أخ كبير، كان ناصر كل هؤلاء جميعا، كان عود الفل. كنت أتعثر في طرف جلبابي الزفير «زفير النهضة» المخططة بالطول، وألهث لحاقاً بخطي أمي التي تلاحق النعش لا يغيب عن عينيها الذارفتين للدموع، إحساس فادح باليتم تلفعت به تلك الشابة السمراء فوق طرحتها السوداء وهي تمرق من بين الصفوف تبكيه، من هذا الذي تبكيه أمي دون سابق قرابة، من هذا الذي يشيعه الأهل دون سابق معرفة، من هذا الذي يحمله الرجال في هذا العلم الملفوف، ولماذا يشيعون هذا الفقيد في العلم وليس في البردة الخضراء، ولماذا يودعونه بالأناشيد، الوداع يا جمال يا حبيب الملايين. لماذا يحبه الملايين، وكيف استولي علي قلوبهم جميعا؟.. لم يحتمل عقلي الصغير أسئلة الكبار، فاكتفيت بالبكاء علي من أحبته أمي وعمتي وخالتي، أما جدتي فلفها حزن عميق، رحيل ناصر كسر ظهرها، لزمت صمتا، لكنها بين الفينة والفينة، تند عنها آهة حارقة، يا والدي.. بمد الألف عن آخرها تشرخ أجواز الفضاء، وتهبط بيائها حتي تلامس حصيرا قديما، وتخبط بيدها البضة صدرها النابض، الغالي راح.. فتبادلها النائحة بصويت ونحيب، وتعدد ( من العديد)، عدودة منقوعة في حزن السنين. لا أعرف هل تم دفن جثمان جمال عبد الناصر في بلدتنا، كان النعش يقطع البلدة من الوريد إلي الوريد، هل كان ناصر هناك، في النعش، هل هناك مقبرة منقوش علي حجر رخامها «هذا قبر المرحوم جمال عبد الناصر».. كبرت ووهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا، وزرت قبر جمال عبد الناصر في حدائق القبة، وقرأت الفاتحة علي روحه الطاهرة، عجبا كانوا في بلدتنا يشيعون روح عبد الناصر، كانت تحلق فوق مصر التي في خاطره وفي دمه، كان ناصر يودعهم جميعا، دعاهم للوداع، الوداع يا جمال، لم يشأ أن يغادرهم قبل أن يلقي نظرة علي الفلاح متحزم من وسطه يعزق الأرض السمراء، والعامل أمام الفرن غرقان في عرق الأمل، والأم ترضع وليدها من لبان العزة والكرامة. أطل علينا، وغاب، ولم تغب طلته، تزورنا روحه، يطمئن، تعود إلي سكنها علي أمل اللقاء ثانية في موعد مضروب، موعد الرحيل، اكتفي عادة بمشاهدة جنازته الرهيبة، وبالدمع جودي يا عين، في بحر جنازته أبحث عن وجه أمي شدة الشدة، والطرحة السودة مشدودة، ولها طرفان طويلان، تشدهما من خلف الرأس وتتمايل كأنها في حلقة ذكر، كالطير يرقص مذبوحاً من الألم، تنعيه، رحم الله أمي التي أحبت رجلاً من أغلي الرجال وأشجع الرجال وأخلص الرجال هو الرئيس جمال عبد الناصر الذي جاد بأنفاسه الأخيرة في الساعة السادسة والربع من مساء يوم 27 رجب سنة 1390 الموافق 28 سبتمبر سنة 1970. « بحر من الدموع يصل ما بين المحيط والخليج، لم تبك أمة ابناً مثلما بكت جمال عبد الناصر».