أتحدي أنه يوجد في مصر - حد فاهم حاجة - لذلك لا تحاول أن تفكر أو تتوقع أو تستنتج أو ترسم أي معالم للمستقبل. فحتي الآن يبدو كل شيء غامضا وغير مفهوم، وقد يأتي الغد بكل ما لم يكن في الحسبان. لن أخوض في الأسباب التي أدت لهذه الحالة الغريبة والفريدة التي تعيشها مصر بعد ثورة يناير. ذلك ان ذكر الأسباب يتطلب معرفة كاملة بكل الأحداث التي نسجت خيوطها والتي أحاطت بها، مرورا إلي حالة الارتباك والدوران في حلقة مفرغة نعيشها اليوم، وحتما سوف ندفع جميعا ثمنا لها. وإذا كان الحديث اليوم عن حالة الفوضي السياسية التي أصبحت مثار حديث بلا مضمون لكل الناس، يشبه تماما الحرث في الماء، فأجد نفسي وقد بدأ القلق والخوف القاتل يعتريني وأنا أرصد عن قرب الحالة الاقتصادية التي تعيشها مصر، رغم تصريحات وزير المالية بأن مصر لن تواجه حالة من الإفلاس. لا أحد سواء في البرلمان أو الحكومة أو المجلس الأعلي للقوات المسلحة يملك القدرة علي أن يقول الحقيقة المرة للناس حول الوضع الاقتصادي الذي نعيشه، بل إن بعض السياسيين الجدد يلوحون ويتوعدون ويتهمون كل من يتحدث عن المخاطر التي تواجه الاقتصاد بأنه يعمل ضد الثورة. وحقيقة الأمر أنهم هم الذين يحاولون تفريغ الثورة من كل معانيها وأهدافها، لأن محاولة التكتم أو عدم الشفافية في مناقشة الوضع الاقتصادي سوف تضرب الثورة في مقتل. كل الثورات تمر بمراحل مختلفة وتعاني شعوبها من وطأة أوضاع اقتصادية متقلبة، غير ان وضوح الأهداف والسعي المنظم لتحقيقها يمثل فارقا بين ثورة وأخري، ناهيك عن قدرة وثقافة الشعب ووجود محاولات كثيرة من بعض القوي السياسية لاعلاء سقف الآمال والتوقعات. ومن هنا يزداد حجم الاحباط الذي قد تصاب به الشعوب وهي تتابع سباقا محموما لاعتلاء السلطة بكل أشكالها وألوانها ومجالاتها، سباقا للهدم والانتقام وحفز المواطنين لاعلاء سقف مطالبهم لحدود تفوق بكثير قدرة الاقتصاد المصري علي تحقيقها، سواء الآن أو حتي في القريب العاجل. لم يسأل أحد من النواب أو السياسيين الجدد عن الموازنة الجديدة للدولة - والتي كان من المفترض أن تناقش الآن - ومن أين ستأتي مواردها؟ وكل قواعد مصر الانتاجية تعاني حالة من الارتباك والنضوب واقتراب حصالة مصر من الاحتياطي النقدي من النضوب، وحالة التخوف والترقب التي تتعامل بها المؤسسات المانحة سواء كانت عربية أو أجنبية مع مصر وهي تتابع حالة الضبابية والارتباك وعدم وجود هوية لمستقبل مصر الاقتصادي. لقد هالني حديث البعض عن حجم الأموال المهربة، والذي امتد ليشمل وجود مئات المليارات من الدولارات بأسماء مسئولين سابقين في البنوك الأجنبية. هالني حجم مليارات التعويضات والغرامات التي تصدر مصاحبة للأحكام.. هالني الحديث عن أموال الصناديق الخاصة وكلها أرقام وهمية لا أساس لها من الصحة جملة وتفصيلا. هالني أحلام بعض المرشحين للرئاسة، وقدرتهم علي أن تتحول مصر إلي جنة الله في أرضه، دون أن يتبع ذلك الإجابة عن سؤال من أين؟! واحتياطي مصر من النقد الأجنبي يعاني ضغطا لم يشهده من قبل، وسيؤدي خلال فترة أقصر مما نتوقع إلي الضغط علي الجنيه المصري، وضربة في مقتل، وانفلات حالة التضخم غير المدروس، بالاضافة للارتفاع المستمر للأسعار. وارتفاع المديونية الداخلية لحدود غير مسبوقة، وانخفاض كل الموارد السيادية للدولة. لقد تسابق معظم نواب الشعب للهجوم الضاري علي الحكومة، وقد يكون معهم بعض الحق نظرا لسوء الحالة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المواطنون ولم يتوقف أي واحد منهم أمام ما حققته الحكومة من انجازات لا حصر لها - وهي تعمل في ظروف اضطرارية صعبة ومستحيلة - يتهدد وزراؤها ورئيسها بسحب الثقة. ولغة التهديد والوعيد التي خرجت في بعض الأحيان عن حدود اللياقة والأخلاق، لغة أوجدت حالة من الاحباط وأعلت من سياسة الأيدي المرتعشة التي يتعامل بها كل أو معظم المسئولين اليوم، وخاصة مع المشاكل الملحة والتي ساهم في تفاقمها نضوب الموارد وعدم قدرتها علي الوفاء بالمطالب المتزايدة للمواطنين. وسط هذا الضجيج والصخب، يعقد الدكتور كمال الجنزوري رئيس مجلس الوزراء مئات الاجتماعات، والاتصالات من أجل احتواء الموقف الاقتصادي المتدهور. وهو ما نجح فيه لحد كبير، أقول بكل الوضوح أنه لولاه لكان الاقتصاد المصري الآن في أعماق اليم. وإذا كنا نعرف مقدما أن جلسات مجلس الشعب لمناقشة ما سمي ببيان الحكومة، سوف تنتهي إلي رفض البيان والتشدق بجملة سحب الثقة، فإنني أطالب رئيس الوزراء بإعداد تقرير شامل حول مئات القرارات والاجراءات التي قامت بها حكومته والتي استطاعت أن تخمد نيرانا كثيرة كان من الممكن أن تعصف بمصر كلها، لكنها للأسف الشديد تضيع وسط ضباب المهاترات في أول برلمان للثورة، أثق ثقة عمياء أن كل أعضائه وطنيون شرفاء يؤرقهم جميعا ما تعانيه مصر اليوم من مشاكل، وما تصبو إليه من آمال. ان طول الظمأ للحرية والممارسة الديمقراطية قد يدفع البعض أحيانا إلي المبالغة وإلي القسوة في التعبير عن الرأي. لكن ذلك كله يجب ألا ينسينا أن هناك نجاحات كثيرة قد تحققت، وان الحكومة لا يمكن أن تصفق بيد واحدة، لا نريد نقدا لاذعا أو أفكارا بالية حول معالجة مشاكل مصر المزمنة. ولكننا نريد أفكارا جديدة لزيادة الموارد وحلولا مبتكرة لمشاكلنا لا تجبر الدكتور الكتاتني أن يقول دائما للمتحدثين »وبناء عليه!« لأنه لا يسمع جديداً في كل مرة يطلب فيها أحد الأعضاء الكلمة.