ما لم نجده في الرواية المصرية موجود في كتاب شديد الأهمية للمؤرخ الدكتور عبد العزيز الشناوي. وعنوانه: السخرة في حفر قناة السويس منذ أن بدأ العمل في حفر قناة السويس الجديدة قبل سنة من الآن. يطاردني سؤال من المستحيل الهروب منه: متي ندوِّن ملحمة حفر القناة حتي يختلف مصير القناة الجديدة عن القناة الأم التي أصبحت جزءاً من وجداننا؟ ومع هذا ما زالت حكايتها في انتظار من يكتبها. وأنا أتكلم عن القناة الأم وليست القناة الجديدة. أعرف أن الإبداع لكي يكون إبداعاً حقيقياً لا بد أن يصبح تالياً لما يجري في أرض الواقع. بل ربما مرت سنوات تفصل الحدث عن الكتابة عنه. ولكن مقصدي القناة القديمة التي تم حفرها في القرن التاسع عشر. وقد حفرت بالسخرة. وكان افتتاحها من أهم الأحداث الحضارية الكبري في القرن التاسع عشر. والأموال التي استدانها الخديو إسماعيل لإقامة احتفال افتتاح القناة كانت من أسباب إبعاده عن الحكم ونهاية عمره بطريقة مأساوية لا تتناسب مع ما قدمه. من المؤكد أنه جرت محاولات لتدوين ملحمة حفر القناة. الشاعر أمل دنقل كان لديه مشروع أن يُدوِّن بالشعر ملحمة حفر القناة. وتفرغ تماماً لهذا العمل. ولا أعرف هل أنجز منه بعض المراحل؟ أم لم يقترب منه؟ أم أن الأمر لم يخرج عن أمنية أو مشروع أو رغبة لم تتحقق في أرض الواقع وفي حياة الشعر؟ كل ما جري أننا سمعناه يتكلم كثيراً جداً عن هذا المشروع الذي كان يحلم أن يكون مشروع عمره الشعري. الروائي عبد الرحمن فهمي. وهو روائي مهم. رغم أنه من مظاليم الكتابة الروائية في القرن العشرين. وهو بالمناسبة والد الموسيقار ياسر عبد الرحمن. عبد الرحمن فهمي خطط لعدد من الروايات يكتبها عن حفر القناة. ونشر رواية وحيدة منها كان عنوانها: الذئاب والفريسة. وفي آخر الجزء الأول من الرواية إشارة إلي الأجزاء التالية منها. ويمكن أن نستشف موضوعها من عنوان الرواية التي كتبها ونشرها علي نطاق ضيق. لدرجة أن من يسمع عنها أقل من القليل من المثقفين. يمكن أن ندرك أن الرواية تقدم رؤية المؤلف لحفر القناة، ولمشروع القناة كله. ومدي قسوة الاستعمار ومحاولته أن يلتهم الفريسة المصرية ممثلة في قناة السويس. وقد رأيت عبد الرحمن فهمي أكثر من مرة. في الجمعية الأدبية المصرية. وفي مقر مجلة القاهرة التي كانت تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وفي كل مرة كنت أرغب في سؤاله عن الأجزاء الأخري من ملحمة حفر القناة. ولكن اللقاء كان ينقضي مثلما يحدث في لقاءات المثقفين دون توجيه السؤال والاستماع إلي رده. ما لم نجده في الرواية المصرية موجود في كتاب شديد الأهمية للمؤرخ الدكتور عبد العزيز الشناوي. وعنوانه: السخرة في حفر قناة السويس. وقد ركز عمله علي عمليات جلب الفلاحين من القري والكفور والنجوع وتسخيرهم للعمل في حفر القناة. والمصائر التي كانت في انتظارهم. وعدد الشهداء الذين استشهدوا. والدماء التي ملأت القناة قبل أن تجري فيها المياه. مياه البحر الأبيض المتوسط. والبحر الأحمر. حيث التقت بعد الافتتاح في منتصف القناة تماماً. وللحقيقة وللتاريخ. فإن ترويع الفلاحين المصريين خاصة الفقراء منهم. ربما المعدمين قد جري في التاريخ الحديث مرتين. الأولي: عند حفر قناة السويس. والثانية: خلال الحرب العالمية الأولي. حيث كان الفقراء يقومون بأعمال الخدمة لقوات بريطانيا التي تحارب في هذه الحرب التي لم يكن لنا فيها ناقة ولا جمل. كان الجنود يصلون إلي القري. ويقفون أمام المساجد بعد صلاة الفجر. ويلقون القبض علي الفلاحين. ويتم نقلهم عنوة ودون رغبة منهم إلي منطقة القناة لكي يشاركوا في الحفر. وفي الحرب العالمية الأولي كانوا ينقلون إلي خطوط الجبهة المتقدمة. وقد سمعنا في قرانا أن أحداً لم يعد من الذين سافروا. لا في المرة الأولي إلي جبهة القناة. ولا في المرة الثانية إلي خطوط الحرب المتقدمة. لا أدَّعي أن حفر القناة قد أغفل تماماً. فمن يعد إلي الأجزاء التي تم تنفيذها من المسلسل البديع: بوابة الحلواني. لصديقي وبلدياتي محفوظ عبد الرحمن. سيجد أن حفر القناة أو التفكير في حفرها له وجود في المسلسل. بل إن مدينة بورسعيد التي لم تكن قد أنشئت بعد في زمن المسلسل. وكان اسمها: الفرما. وكانت موجودة بهذه الإسم ولا ترد كلمة بور سعيد. إن حفر القناة الأولي ملحمة ما زالت في انتظار من يكتبها. فما بالك بقناتنا؟ أعرف أن الإبداع مسألة مركبة ومعقدة داخل النفس البشرية. ولا يمكن إصدار الأوامر للمبدعين لكي يبدعوا. فيجلسون لمكاتبهم ويمارسون الإبداع استجابة للطلب.