الصين تدعو لاتخاذ إجراءات ملموسة لدفع حل الدولتين ووقف إطلاق النار بغزة    من هم «بنو معروف» المؤمنون بعودة «الحاكم بأمر الله»؟!    أول رواية كتبها نجيب محفوظ وعمره 16 سنة!    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    انتخابات مجلس الشيوخ.. الآليات والضوابط المنظمة لتصويت المصريين فى الخارج    "الزراعة" تنفيذ 286 ندوة إرشادية والتعامل مع 5300 شكوى للمزارعين    وزارة التموين تنتهى من صرف مقررات شهر يوليو 2025 للبقالين    ميناء سفاجا ركيزة أساسية في الممر التجاري الإقليمي الجديد    عبدالغفار التحول الرقمي ركيزة أساسية لتطوير المنظومة الصحية    وزير الإسكان يُصدر قرارًا بإزالة 89 حالة تعد ومخالفة بناء بمدينة الشروق    قبول دفعة جديدة من الأطباء البشريين الحاصلين على الماجستير والدكتوراه للعمل كضباط مكلفين بالقوات المسلحة    تنسيق الجامعات.. تفاصيل الدراسة ببرنامج الهندسة الإنشائية ب"هندسة حلوان"    إدارة الطوارئ في ولاية هاواي الأمريكية: إغلاق جميع المواني التجارية بسبب تسونامي    محمد السادس: مستعدون لحوار صريح ومسؤول مع الجزائر    تحليل جديد: رسوم ترامب الجمركية سترفع نفقات المصانع الأمريكية بنسبة 4.5%    الخارجية الأمريكية: قمنا بتقييم عواقب العقوبات الجديدة ضد روسيا علينا    33 لاعبا فى معسكر منتخب 20 سنة استعدادا لكأس العالم    لم نؤلف اللائحة.. ثروت سويلم يرد على انتقاد عضو الزمالك    إصابة طفل نتيجة هجوم كلب في مدينة الشيخ زايد    انخفاض تدريجي في الحرارة.. والأرصاد تحذر من شبورة ورياح نشطة    جدول امتحانات الشهادة الإعداية 2025 الدور الثاني في محافظة البحيرة    البترول: السيطرة على حريق سفينة حاويات قرب «جنوب شرق الحمد»    التصريح بدفن جثة طفل لقى مصرعه غرقا بإحدى الترع بمركز سوهاج    حفل جماهيري حاشد بالشرقية لدعم مرشح حزب الجبهة بالشرقية    ليلى علوي تعيد ذكريات «حب البنات» بصور نادرة من الكواليس    فقد الوعي بشكل جزئي، آخر تطورات الحالة الصحية للفنان لطفي لبيب    عزاء شقيق المخرج خالد جلال في الحامدية الشاذلية اليوم    وفري في الميزانية، طريقة عمل الآيس كوفي في البيت زي الكافيهات    قافلة طبية توقع الكشف على 1586 مواطنا في "المستعمرة الشرقية" بالدقهلية (صور)    محافظ الدقهلية:1586 مواطن استفادوا من القافلة الطبية المجانية بقرية المستعمرة الشرقية بلقاس    فتح باب التقدم لاختبارات الدبلومات والمعاهد الفنية للقبول بكلية الهندسة    حظك اليوم الأربعاء 30 يوليو وتوقعات الأبراج    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    "البترول" تتلقى إخطارًا باندلاع حريق في غرفة ماكينات مركب الحاويات PUMBA    البنك العربى الإفريقى يقود إصدار سندات توريق ب 4.7 مليار جنيه ل«تساهيل»    جدول مباريات بيراميدز في الدوري المصري الممتاز الموسم الجديد 2025-2026    وزير الثقافة: جوائز الدولة هذا العام ضمت نخبة عظيمة.. ونقدم برنامجا متكاملا بمهرجان العلمين    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    الدقيقة بتفرق في إنقاذ حياة .. أعراض السكتة الدماغية    يسمح ب«تقسيط المصروفات».. حكاية معهد السياحة والفنادق بعد قضية تزوير رمضان صبحي    تنسيق الجامعات 2025 .. تفاصيل برامج كلية التجارة جامعة عين شمس (مصروفات)    منافسة غنائية مثيرة في استاد الإسكندرية بين ريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقى العربية.. صور    الخارجية الباكستانية تعلن عن مساعدات إنسانية طارئة لقطاع غزة    إنجاز غير مسبوق.. إجراء 52 عملية جراحية في يوم واحد بمستشفى نجع حمادي    الجنايني يتحدث عن مفاوضات عبد القادر.. وعرض نيوم "الكوبري" وصدمة الجفالي    مصرع عامل اختل توازنه وسقط من أعلى سطح المنزل في شبين القناطر    عاجل- ترمب: زوجتي ميلانيا شاهدت الصور المروعة من غزة والوضع هناك قاس ويجب إدخال المساعدات    نبيل الكوكي يقيم مأدبة عشاء للاعبى وأفراد بعثة المصرى بمعسكر تونس    عمرو الجناينى: تفاجأت باعتزال شيكابالا.. ولم أتفاوض مع أحمد عبد القادر    عيار 21 الآن يسجل رقمًا جديدًا.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 30 يوليو بعد الانخفاض بالصاغة    تنسيق المرحلة الثانية 2025.. موعد الانطلاق والمؤشرات الأولية المتوقعة للقبول    التفاصيل الكاملة لسيدة تدعي أنها "ابنة مبارك" واتهمت مشاهير بجرائم خطيرة    سبب غياب كريم فؤاد عن ودية الأهلي وإنبي وموعد عودته    الجنايني عن شروط عبدالله السعيد للتجديد مع الزمالك: "سيب اللي يفتي يفتي"    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟.. واعظة تجيب    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قناة السويس.. أساطير الناس والمكان
نشر في الأهرام العربي يوم 28 - 08 - 2014


سيد محمود حسن- جيهان محمود-مرسي حسن
عندما أعلن الرئيس السيسى إشارة حفر المسار الجديد لقناة السويس، الذى يوازى المسار التاريخى للقناة، استعاد الكثير من المصريين علاقتهم بهذا الشريان، حيث لا يخلو بيت من حكاية تخص القناة منذ أن بدأت عملية حفرها وحتى الآن، فمن أفلت من عملية السخرة المرافقة لسنوات الحفر، لم يفلت من سحر صوت الرئيس جمال عبد الناصر، وهو يعلن قرار تأميمها فى لحظة عزة لمعت أمام الجميع.
إنها عملية استعادة كاملة انشغل بها الجميع، فالقناة التى نعرفها والتى نريدها، قناة للناس ومن يعرف مدن القناة يعرف جيدا كيف كان هذا الممر المائى أفقا للعطاء. صنع ملامح الشخصية المصرية فى تلك المدن وصانع لحظات البهجة، وكان هو صانع الفرح الذى جعل الأهالى دائما مولعين بالشاطئ الآخر وقادرين على ترويض سحره. لذلك ظلت قناة السويس ساحة للولع بالناس والأساطير.
شواطئ «الضمة» واللمة
بمجرد الإعلان عن حفر قناة السويس الجديدة تداعت إلى المُخيلة المصرية فصولاً من أهم فصول تاريخها المعاصر، فصولاً بلون الدم ورائحة الحياة، فصولا بدأت منذ مائة وأربعة وخمسين عاماً( 1859) ولم تنته بعد، ولن تنتهى غدا، لأنها حدثت استجابةً لشهقة الحياة وتحدياً لسكون البلاد والعباد.
اختلف المؤرخون حول "ديلسبس" (1805- 1894) كشخص لكنهم لم يختلفوا حول دوره التاريخى فى حفر قناة السويس، برغم أن المغامر الفرنسى لم يكن أول الحالمين ومفتتح المغامرين، سبقه إلى الفكرة الفراعنة والفرس والإغريق والبطالسة والرومان والعرب، وسبقه إلى دراستها والتحقق منها والتخطيط لها زملاؤه الفرنسيون: جاك مارى لوبير، بولان تالبوت، لينان دى بلفون، وأتباع السان سيمونيين، لكن حفر القناة انتهى اليه وبدأت فصوله على يديه.
عاد "ديلسبس" مثل عصفور النار الذى يتجدد من العدم بالقرب من البقعة الأولى التى ضرب فيه معوله مُعلناً بداية حفر قناة السويس فى الخامس والعشرين من شهر إبريل عام 1859، عاد بتمثاله عارياً من مجده الغابر وفى يده الأولى مُسودة – قنال السويس - بينما يده الأخرى مفتوحة بطول القناة، وتشير سبابته بثقة إلى حلمه الذى تحقق وصار تاريخاً، عاد المغامر داخل ترسانة بورسعيد البحرية فى بورفؤاد، ولم يعد إلى قاعدته الخالية التى ما زالت تحمل اسمه برغم مرور ثمانية وخمسين عاماً عن إنزاله عنها أثناء حرب 1956 أثناء حرب المصريين لكل ما يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى الاستعمار ورموزه، حتى إنهم أزالوا تمثالاً للإنجليزى "واجورن " فى أقصى جنوب السويس، برغم أنهم لا يعرفونه أو يعرفون سيرته كحالم حلم بإنشاء شركة بريدية تصل بين إنجلترا ومستعمراتها فى الجنوب دون المرور بطريق رأس الرجاء الصالح، وغامر بحلمه مثله مثل "ديلسبس"، لكنه انتهى مهزوماً عكس قرينه الفرنسى الذى أهداه تمثالاً تقديراً لدفاعه عن حلمه حتى الرمق الأخير من حياته.
فى عام 1989 جاء الشاب الفرنسى "ديفيد بورجوان" بمنحة من الحكومة الفرنسية إلى بورسعيد، جاء ليعيد تمثال ديليسبس إلى الحياة، قضى الشاب فترة تجنيده فى بث الروح إلى جسد التمثال المتهرئ والمتكلس والمنزوعة عنه كفوف اليد والقدمين، ساعد الشاب المُرمم ستة من الفنيين المصريين، وأعاد المرمون التمثال إلى سيرته الأولى وإلى لونه الأخضر الناصع بعد ثمانية عشر شهراً من العمل المتواصل وبعد إعادة طلائه باثنتين وعشرين طبقة من البرونز واثنين وعشرين دفقة جديدة من دفقات الحياة، وغادر "ديفيد بورجوان " بورسعيد ومعه سر الطلاء البرونزى تاركاً تمثاله ينبض بالحياة مرة أخرى بعد تسعين عاماً من اعتلائه لقاعدته فى السابع عشر من نوفمبر عام 1899 فى الذكرى الثلاثين لافتتاح القناة، وخرج التمثال من أيدى مُرمميه إلى منفاه الحالى مُجاوراً لبعض مُخلفات الشركة ومُحاطاً ببعض الشجيرات الخضراء حوله وخلفه، يقف التمثال مثله مثل – الفنار القديم – الذى تقابله مباشرة على الجانب الآخر من القناة، لم يعد التمثال أول مشهد تراه السفن العابرة فى استقبالها، ولم تعد الأضواء تنبعث من الفنار بعد أن حاصرته الأبراج السكنية وتم استبداله بفنار آخر غرب المدينة، الاثنان صورة تليدة لمدينة قديمة، لم يبق منها إلا ظلها البعيد، يرى التمثال من منفاه الحالى مكان قاعدته عند مدخل القناة، لكنه لا يجرؤ على العودة إليها بعد أن تباينت آراء أبناء المدينة بأمر عودته، فهو مستعمر غاشم فى عين نصفها وجزء من التاريخ فى عين نصفها الآخر.
على بعد أمتار من تمثال "ديلسبس" يعتلى "السيد الشافعى" كابينة معدية من معديات هيئة قناة السويس، لينقل العابرين من بورسعيد إلى بورفؤاد والعكس عبر رحلة بحرية لا تستغرق سوى دقائق بين مدينتين أو بمعنى أدق بين قارتين"إفريقيا وآسيا"، والشافعى مثله مثل "ديلسبس" لم يتوقف يوماً عن الحلم، ونمت وبين طائر الهدهد علاقة من نوع خاص، علاقة بين اثنين اجتمعا على يافطة انتخابات واحدة، وعلى ملصق دعائى يحمل صورتهما معاً، وارتبط كل منهما بالآخر، وصار عنواناً له ودليلاً عليه، ربط الناخبون بينه وبين الهدهد، حتى وصل الأمر بهم إلى نعته بالسيد الهدهد، وإلى تغيير دعايته الانتخابية على ألسنتهم إلى: السيد الهدهد، رمز الشافعى، وليس العكس. ووصلت الأسطورة مداها حينما اختفت الهداهد من المدينة تاركة لهدهد الشافعى الانتشار وحده، وحقق "الشافعى" مع الهدهد أصواتاً لم يحصل عليها من قبل، خصوصا أنه شارك فى الانتخابات النيابية لثلاث دورات متتالية رسب فى جميعها، ولم يبق من سيرته إلا الهدهد، والشافعى فى كل أحلامه مثل صديقه الهدهد: يمشى بهدوء ثم يسرع فجأة، ويتملص من الحديث عن أى توجهات سياسية أو عقائدية، لأنه يحلم مثل الهدهد ورأسه إلى أسفل، وحلمه قابع بعيداً فى أفق السماء.
فى الأول من نوفمبر عام 1951 أعلنت الصحف المصرية عن زيارة الملك فاروق الأول ( 1920 – 1965 ) لمدينة بورفؤاد على اليخت الملكى "فخر البحار" احتفالاً باليوبيل الفضى لنشأة المدينة عام 1926، ولإزاحة الستار عن تمثال والده - الملك فؤاد الأول - الذى اعتلى قاعدته فى واجهة المدينة انتظاراً لحضور ابنه الملك، لكن بسبب معارك القناة الدائرة بين الفدائيين المصريين والقوات البريطانية المرابطة هناك وإضرابات عمال ميناء بورسعيد وصولاً إلى حريق القاهرة فى يناير عام 1952، وتأزّم الحياة السياسية المصرية واندلاع ثورة يوليو عام 1952، قرر الضباط الأحرار رفع التمثال عن قاعدته وإلقاءه مُهملاً فى ظلام أحد مخازن هيئة قناة السويس باعتباره أحد رموز العهد الملكى البائد، وبعد خمسين عاماً وتحديداً عام 2002 قررت الدولة المصرية إعادة التمثال إلى قاعدته التى لم يستمر الملك أعلاها سوى ثلاثة أيام قبل رفعه مرة أخرى بعد حملة "البدرى فرغلى" عضو مجلس الشعب ضده وضد تمثاله، ليعود التمثال مرة أخرى إلى ظلام المخازن برغم أن الضاحية الجميلة "بورفؤاد" ما زالت تحيا باسمه حتى يومنا، فاسمه مُلازم لها كظلها، ولا يعيش تمثال الملك وحيداً فى ظلامه، فهناك وعلى بعد أمتار من قناة السويس يعيش "حسن مهران " مع أحلامه المُهدرة، يعيش هائماً بلا مأوى ثابتا أو مستقرا فى عشته الصغيرة على مدخل القناة جهة الرسوة، يقصد عشته العشرات لأجل لحظات يقتنصوها خارج الزمن، ولأجل تبادل الهموم والحكايات وأكواب الشاى وأقداح القهوة من يديه، و"مهران " إنسان بسيط تعلق بحبال الفن وغوايته، حتى فسدت عليه حياته العادية، وعاش بين الواقع والخيال هائماً بلا مكان، وانتهى وحيداً بعد زيجة فاشلة بلا أطفال، وإبداعات لا حصر لها فى الشعر والرواية والدراما المسرحية والتليفزيونية، له فى كل شهر رواية أو مسلسل أو ديوان شعرى، ويكتب فى أحلك الظروف وأصعبها، وتحت ضغط الجوع والعوز، ولايحتاج أكثر من قلم و "رزمة" ورق حتى تتدفق الكتابة بلا توقف، ويعزو "مهران" سبب فشله فى التحقق إلى التوريث الفنى المتفشى فى مصر، وكما ورث الأبناء مهن أبائهم فى الفن، ورث "مهران" مهنة أمه وانتهى إليها بعد طول عذاب، وبعد أن اختلط عليه الواقع بالخيال والبحر بالسماء.
فى يونيو عام 1896 افتتح اليونانى "جريجوار سوليداس" مسرح وتياترو "الألدورادو" بمسرحيتى ترافياتا وتريفاتور، وفى عام ( 1898 ) أضاف الحالم اليونانى إلى مسرحه آلة عرض سينمائى، وشهدت بورسعيد أول عروضها السينمائية، والتى لم يفصل بينها وبين أول عروض السينما العالمية (1896) سوى عامين فقط، والعرض كان ثالث العروض السينمائية بمصر بعد عرضىّ الإسكندرية والقاهرة، ومع كل جزء وطأته بقدمى داخل السينما رأيت سنوات غائمة تحت سماء بعيدة من الدهشة، اختفت شاشة السينما بأضوائها وألوانها، وغاب المسرح بجلاله ورهبته، وعلا التراب معظم الوجوه التى جاءت بها قلوبها إلى "الألدرادو" لكننى لمحت ظلالاً على أرض السينما الواهنة والآيلة للسقوط، ظلالاً تومض بحكايات وحكايات، تومض بقصص حب مكتملة وغير مكتملة، وابتسامات لمعت فى حدقات العيون ممزوجة بسحر أبطال الشاشة ونجومها.
يحكى لنا المؤرخ اليونانى سلطناكى فى كتابه ( مدن القناة ) – 1922 - واصفاً السينما: سينما الألدرادو سينما شهيرة تتسع صالتها لأربعمائة مشاهد، وبها خمسون ( لوجاً ) مقسمة إلى قسمين وحوائطها مُزينة بالزخاف والرسوم المُذهبة الجميلة وآلة عرضها حديثة ومتطورة، ويُصاحب عروضها عزف الأوركسترا، ومن السهل تحويلها إلى مسرح لعرض المسرحيات الدرامية والكوميدية والأوبريتات وألعاب الحواه والسحرة وأعمال التنويم المغناطيسى، كذلك حفلات كبار الفنانين الموسيقية، التى كان يتهافت عليها سكان المدينة (ومعظمهم من الأجانب وقتها) خصوصا المجاورين للسينما بحى الأفرنج الشهير ببورسعيد، وأضاءت سينما ومسرح الألدردو بعروض فرق يونانية وفرنسية وإيطالية وأسترالية، ومن كل بقاع العالم ، كذلك شهد مسرحها عروض رواد المسرح المصرى: يوسف وهبى، زكى طليمات، نجيب الريحانى، على الكسار، مارى منيب، ميمى شكيب .. ومنذ ما يزيد على أربعين عاماً هجرت الأضواء سينما ومسرح الألدرادو، وانطفأت مساءاته المنيرة، وتحول إلى ركن مظلم ومتهرىء، لا يتذكره أحد، خصوصا بعد إن اختفى كخبيئة تاريخية وسط الأبراج السكنية التى حجبت عنه أى بقعة ضوء.
و"الألدرادوا " واحدة من ستة عشرة داراً سينمائية عجت بها المدينة الصغيرة منذ نشأتها، واختفت جميعهاً واحدة تلو الأخرى، وحدثنى عنهم جميعاً " أشرف عيادة "سليل عائلة " عيادة "التى امتهن كل أفرادها عرض شرائط السينما، بدءًا من الأب " حسين عيادة " الذى أخذ المهنة عن اليونانيين منذ ثلاثينيات القرن الفائت مروراً بالأبناء: أحمد وأشرف وأيمن، الذين وقفوا جميعاً خلف آلة العرض التقليدية بقطبيها الكربونيين اللذين يبعثان الضوء إلى الشاشة وتنبثق منهما عوالم السينما وأحلامها، وخلف آلة العرض الرقمية التى لا تتطلب منهم سوى تشغيلها عند بدء الفيلم.
فى أقصى نقطة غرب بورسعيد، وعند مدخل شاطئ "الجميل" تُقابلك بوابات مقابر المدينة القديمة وهى على الترتيب: الكُومنولث، الكاثوليك، الأرثوذكس، يليهم خمس بوابات لمقابر المسلمين، بخلاف خمس بوابات أخرى للمسلمين أُنشئت حديثاً بالقرب من عزبة أبو عوف على أطراف المدينة، فى خطوتك الأولى داخل مقبرة الكُومنولث، وعلى أول ضريح فيها تلتقى بسطور شعرية رهيفة مجللة بالحزن: ابنى الحبيب / أرقد بسلام / تحت هذه الأرض الغريبة / بعيداً جداً / عن أحبائك / الذين يبكون من أجلك .. وهى سطور مرسلة إلى الرقيب ) J . R marchello (من والده، بعد أن ودع حياته أثناء الحرب العالمية الثانية .. فى خطوتك الثانية تزول عنك رهبة الموت ووحشته وتشعر بجلال لحظة غروب حياة الإنسان الأسين، فالمقابر أقرب إلى واحة هادئة وسط ضجيج الحياة حولها، ومُغطاة عن آخرها بالأعشاب الخضراء المهذبة والمنسقة تنسيقاً خاصاً وبديعاً، وتتوزع الورود بين الأضرحة كرسائل حب مُعطرة إلى المحاربين القدامى الذين لقوا حتفهم فى الحربين العالميتين: الأولى ( 1914 – 1918 ) والثانية ( 1939 – 1945 ). كانت مصر نقطة انطلاق قوات الكُومنولث فى حملتها إلى "جاليبولى" أثناء الحرب العالمية الأولى، وإلى إثيوبيا وشمال اليونان والمشرق فى الحرب العالمية الثانية، وتضم مقابر الكومنولث رفات جنود قوات الحلفاء الذين ودعوا حياتهم فى الحربين العالميتين بواقع ( 983 ) فى الحرب العالمية الأولى، و (111 ) فى الحرب العالمية الثانية، ومن باب حديدى صغير داخل مقابر "الكومنولث" دلفت إلى مقبرة الكاثوليك، ووجدت نفسى فى منتصف المقبرة تقريباً، صادفت عينى أطلال مقابر تنم عن مجد غابر وتشى بزمن بعيد، فالطائفة الكاثوليكية اندثرت من المدينة، ومعظم أبنائها غابوا تحت التراب أو غادروا المدينة دون رجعة، حارس المقبرة مسلم، وملامحه تتشابه مع ملامح الأوروبيين فى بياض البشرة ولون العينين، ويجلس وحيداً مع كلبه الذى لم يكف عن الصخب حولنا، طلب الحارس بإصرار أن نغفل ذكر اسمه لأسباب عائلية، برغم أنه يُمثل الجيل الرابع لأسرته فى المقبرة، ويقيم بشكل دائم فى المقبرة منذ عام 1943، وبدأت حراسته للمقبرة عام 1984 بعد وفاة والده، ومن حينها والكاثوليك يقل عددهم فى المدينة عاما بعد عام، وكان آخرهم مسيو "فرانسوا " الذى توفى منذ بضعة أشهر، وهو آخر المالطيين الذين ارتبطوا بالمدينة ورفضوا مغادرتها. ويجلس الحارس منذ سنوات طويلة وحيداً، فلم يعد أحد يزور المقابر، ولم يعد أحد يتذكر من بداخلها من شخصيات كان لها تأثير غير عادى فى تاريخ المدينة مثل: مسيو سيمونينى، رائد الفندقة فى بورسعيد، وصاحب كازينو دى بالس، ومسيو دى كاسترو، ومدام جران، أثرى أثرياء المدينة فى النصف الأول من القرن العشرين، وصاحب الشركات الملاحية العملاقة وقتها، وغادرت المقبرة دون أن تغادرنى مقبرة مسيو "سيمونينى" بمهابتها وجلالها وبياضها الحانى الذى تتصدره تمثال لعذراء حزينة، كذلك التماثيل البديعة للملائكة والقديسين المسيحيين التى تحاصر عينيك فى كل شق بالمقبرة، والصور الفوتوغرافية المُغبشة برائحة السنين، خصوصا صورة الطفلة المبتسمة التى رحلت منذ ما يقرب من مئة عام، وما زالت ابتسامتها قادرة على عبور الزمن إلينا بنفس بهائها الأول، نفس البهاء الإنسانى الذى شعرت به طفلاً يوم أن جاءنا المناضل الكفيف "محمد مهران" متدثراً بحكاياته، وحكى لنا عن نزع عينيه، وانفطرت قلوبنا على إيقاع بطولته الثابت الذى ظللنا نسمعه سنوات طويلة كمارش جنائزى، نسير وراءه حتى نرى الوطن رأى القلب، وذهبنا إلى المناضل الكفيف فى متحفه- المتحف الحربى - ، ورأينا التاريخ مُصوراً على الحوائط وبين فاترينات البطولات، ورأينا وجوهاً وراء وجوه، كلها لشهداء غابوا أو لأبطال نسجوا أساطيراً جديدة للحياة، لكننى لم أستشعر نصاعة المشهد وجلاله، إلا حينما ذهبت وحيداً الى مقبرة الشهداء البيضاء، ولامستنى طيوف رسائل مغلفة برائحة الموت لشهداء لم تعرفهم المتاحف، ولم يقترب منهم ضوء الذاكرة القاسى.
قناة السويس قناة من الماء والماس، قناة تتلألأ فى عيوننا كأيقونة دينية متجددة يزيد عمرها على قرن ونصف قرن، أيقونة مغبّشة بكل أحزان وأحلام العابرين إلى هذه الأرض من مصريين وشوام وفرنسيين ويونانيين وإنجليز وإيطاليين، وكل أجناس البحر الأبيض المتوسط، تتشابه لحظة اكتشافى – لقناة السويس - بلحظة اكتشافى للمعدية، الاثنان يعادلان معنى الحرية والدهشة والانفلات من ضيق المكان إلى رحابة العالم واتساعه، عشت طفولتى الأولى أسيراً داخل حى العرب الشعبى العريق، أسيراً لمباهج اللعب مع الأقران واكتشاف العالم المغوى حولنا ، ولم تتلق أُذنى أو روحى أى إشارة عن – القنال- حتى ذهبت مع والدى إلى عمله بمكتب " القياس" بهيئة قناة السويس، والذى يقع تحديداً فى منتصف القبة الوسطى من القباب الثلاث الشهيرة لمبنى الهيئة العريق، ومن صالة المبنى الرحيبة شاهدت - المعدّية – لأول مرة، وسكنت عيناى، ولم تغادرها حتى الآن، سكنت باعتلائها البحر وعبورها من مكان معلوم إلى مكان آخر لم تكتشفه قدماى، سكنت داخلى لأننى رأيتها بعين طفولتى – جزيرة – تتوسط الماء يلفّها السحر والغموض، جزيرة تمتلىء بقناديل البحر وأساطير المدينة التى فاجأتنى، ودخلت بنورها إلى روحى، أتونى موجة بعد موجة، جاءنى " ملك الفقر " فوق حصانه الأبيض رافعاً أعلامه الخضراء، فخوراً بنياشينه النحاسية، راكضاً فى غياب مع الريح حتى صعد إلى القمر وحيداً.. جاءنى " كوريا البلوكامين "صادحاً بجمال قلبه فى ليل رمضان، حاملاً حلوياته المُلونة بلون طفولتنا، مُرتدياً ملابسه الزاهية زهوة إعلانات الشوارع، مُعلنا عن سحابات تطارده فى منامه .. جاءنى "عم ساسى" مُعطراً بمزيج من ماءين، ماء بحره وماء غوايته للضوء، وترك كل شىء واصطحب "كاميرته" على كتفيه ليقبض بها على المعنى الكامن على أرصفة المدن وفى فضاءات الأماكن، جاءنى "السيد الشرايدى" ظل البحر وسره ، بعدما ترك لمعان البحر إلى غياب البر وحكاياته، وجال بين الناس جامعاً أحلامها، حتى فاضت الأحلام على قلبه واغتوى، وحملها معه إلى غياب البحر وغيابه.
وما زالت رحلتى الأولى بالمعدية تحمل دفقة الاكتشاف والدهشة، دهشة تبدأ من شارع "محمد على" على بعد خمسمائة متر على الأقل من المعدية وحتى النزول إلى ضاحية بورفؤاد والتجول فى نصفها الأوروبى أو الفرنسى تحديداً؛ لأنها البقعة الحلم للمدينة القديمة المسكونة بأراوح سكانها الذين غادروا إلى الغياب، وما زالوا يومضون بحكاياتهم الغاربة بوهن انسانى بليغ، وشارع "محمد على" حداً فاصلاً بين المدينة الأوروبية والمدينة الشعبية، أو بدقة بين حى الأفرنج وحى العرب، اللذان ظلا حتى فترة قريبة على نفس ملامحهما القديمة قبل أن تغيم الملامح تحت معاول الهدم والبناء، كل المبانى من شارع "محمد على" مروراً "بالمعدية" وحتى النصف الأوربى من بورفؤاد تطل بحكاياتها علينا، وكأنها سنابل حزينة فقدت سبيلها إلى الماء خصوصا أن أبراجاً أخرى تحل محلها وتُخفيها تحت طبقات النسيان.
و ترتبط "المعدية" فى ذاكرتى بحضور الشتاء وتدفق طيور النورس بأسرابها البيضاء، وهبوطها من السماء مع قطرات المطر المتتابعة والمتلاحقة، وأنا قابع كظل ضوء هارب أنتظر التقاء المطر مع النورس مع لحظة الغروب، ومثل صانع بهجة عجوز ألقى لقيمات الخبز فى الماء، لتلتم حولها كل "النوارس" وتأتى جماعات، لا تأبه بقطرات المطر، وتعكس عيناها صمت لحظة الغروب الأبدية، وتُلقى ببياض قلبها الحالم إلى عينى، لتبتل روحى بمعنى الحقيقة الكامن فى لحظة الغروب، ويرتجف قلبى عند مشاهدة المطر يسقط على لمعة مياه قناة السويس الذى سيظل دوماً متلألأً فى عيوننا.
الكاتبة سكينة فؤاد: أهل القناة يملكون كنزًا مفاتيحه بأيديهم
لعل من أكثر الشخصيات البورسعيدية العاشقة لمدينتها وبلدها هى الكاتبة «سكينة فؤاد»، والتى عبرت فى العديد من كتاباتها عن هذا العشق الأبدى لمدن القنال، ترى صاحبة «ليلة القبض على فاطمة «أن قناة السويس تمثل لكل للمصريين نقطة ارتكاز أهم عناصر القوة الاقتصادية والقدرة المصرية، وهى لأبناء القنال شريان الحياة فى تكوينهم الثقافي، الوطني، النضالي، المائي، الإنساني، وابن القنال كما له ذراع له قناة، كما له رأس له قناة، فهى عضو حيوى فى تكوينه يجرى ويسرى فى شرايينه مثل سريان الدم فى جسده.
وتجزم الكاتبة «سكينة فؤاد» بأن قناة السويس تتجاوز كل ما تمثله فى التجارة، بل فى الاتصال بالعالم، لذا فمعظم أبناء القنال يتحدثون بكل لغات الدنيا برغم أن بعضهم لم يدخل مدارس، وتعتبر القناة نقطة ارتكاز المقاومة والصمود والفخر، لا تعنى فقط المشروع التجارى البحرى كوسيلة نقل.
لافتة النظر إلى أن مدن القنال كانت من أقل مدن مصر معرفةً للجريمة، التى بدأت الآن تدخل لظروف الاقتصادية تعرضت لها كل الأجيال، نتيجة انفتاح غير مخطط، وسوق حرة غير مخططة، وتؤكد أن أهل القنال يعرفون جيدًا أنهم يملكون كنزًا مفاتيحه بين أيديهم، ومدنهم الثلاث هى المفاتيح، كنز لبلدهم مصر كلها، كان غضبهم دائما أنهم يعرفون أنهم يجلسون فوق كنز ولا يوجد فى مصر أمناء على إدارة هذا الكنز.
وتؤكد «فؤاد» أن مشروع قناة السويس الجديد يمثل ترجمة الحلم، وترجمة ما يؤمنون به، ترجمة ما يعرفون أنه يمثلونه من عناصر قوة وإيمان واستقلال وطنى وسيادة، وأن هذه المكونات كلها التى يملكها المشروع هى المكونات الطبيعية لكل أبناء القناة، مشيدة بهم قائلة بفخر:عندما تتعامل مع أبناء القناة تلمسِ إحساسًا عاليًا بالذات.
وتؤكد أن أبناء مدن القنال غاضبون، لأن كل من جاء لإدارة القناة كان يريد أن يتربح ويفر ويهاجر ويترك المكان، ومعظمهم لا يعرفون يديرون المكان لا لصالح المنطقة وأبنائها، وعندما جاء مشروع قناة السويس الجديد، جاء لتحقيق الحلم، وترجمة للمكونات الوطنية والحضارية والثقافية والإنسانية، وجاء رد اعتبار لدماء أجدادهم التى سالت، وصفعات على وجه المستعمرين والآفاقين الذين أداروا القناة القديمة لصالحهم وتآمروا على مصر، وأهانوا مصر والمصريين، فالمشروع الجديد –من وجهة نظر سكينة فؤاد- هو رد اعتبار لكل هذا، تحقيق لأحلام عاشت عشرات السنين مع أبناء القنال يحلمون بمن يدرك ما بين أيديهم من منطقة كنوز وأمان، وهى منقطة ارتكاز هذا الوطن، منطقة أمن قومى وتنافسية تغنى عن القروض والمعونات والاستذلال، وأشكال الهيمنة التى أرادوا أن يفرضوها على المصريين.
سيرة رجل يحتاج إلى الإنصاف .. مصطفى الحفناوى كلمة سر التأميم
فى أحد مشاهد فيلم ناصر 56 للكاتب المبدع محفوظ عبد الرحمن، يطلب الرئيس جمال عبد الناصر من الدكتور مصطفى الحفناوى تقريرا عن الوضع الدولى لقناة السويس قبيل تأميمها، لكن قلة من الناس تعرف معلومات عن هذا الرجل الذى ارتبطت حياته بالقناة، وهو الغائب الآن عن كل المناسبات المرتبطة بها ولا أحد يذكر اسمه، بل إن البعض يتعمد إغفال سيرته على الرغم من كونه الحافظ الأول لتاريخها ولجميع المعاهدات المرتبطة بها بل هو من أنفق عمره لأجل تأكيد حقوق مصر فى القناة.
ولأن آفة حارتنا النسيان، فقد سقط اسمه سهوا أو عن عمد من الذاكرة الوطنية بينما بقى كتابه العمدة سجلا حافلا لرحلة كاشفة عن آليات اتخاذ القرار السياسى فى مصر، ومنذ أن أعلن ناصر قرار التأميم، وهناك روايات مختلفة عن العقلية التى صاغت لزعيم هذا القرار، لكن الجميع يأتى عن اسم الحفناوى ويتوقف بحثا عن سر الرجل الذى بات ذكره حكرا على أفراد أسرته، فقبل ما يزيد على عشرة أعوام نشرت الأهرام (17 يوليو _2003 ) رسالة من ابنه الدكتور على الحفناوى كتبها تعليقا على أحد المقالات التى كتبها صحفى ومؤرخ عسكرى فى شأن قرار التأميم متهما ناصر بأنه صاغه على عجل ودون إدراك لتوابعه، وهى أمور فندها الحفناوى الصغير فى رسالة ذكر فيها حقيقة الدور الذى لعبه والده فى صياغة قرار تأميم القناة وتكييفه وفق القوانين والمعاهدات الدولية، واستعاد فى الرسالة قصة والده مع القناة ففى ظل حكومة الوفد من عام50 إلي52، قرر رئيس وزراء مصر، النحاس باشا، إلغاء معاهدة 36 من طرف واحد وصرخ صرخته الشهيرة "من أجل مصر وقعت معاهدة 36 ومن أجل مصر ألغى المعاهدة" وبعدها أرسل وزير داخليته فؤاد باشا سراج الدين الأسلحة إلى الفدائيين بمنطقة القناة وبدأت حرب المقاومة الشعبية لإرغام الإنجليز على الجلاء.
وبرغم عدم انتماء مصطفى الحفناوى لحزب الوفد، فإن وزير الخارجية محمد صلاح الدين باشا، دعم موقفه رسميا عندما كتب فى صدر رسالة الدكتوراه التى ناقشها الحفناوى عام51 فى جامعة السوربون بباريس دفاعا عن حق مصر فى تأميم القناة، أن هذه الرسالة تعبر عن موقف حكومة مصر الرسمى من قضية تأميم القناة. وقد نالت الرسالة على يد أساتذة السوربون الفرنسيين أعلى الدرجات والتقدير، فأصبح هذا الحق المصرى الأصيل معترفا به من أعلى جهة علمية قانونية فى العالم الغربى ذاته، ومن يقرأ الطبعة الأخيرة من الكتاب الذى تضمن محتوى الرسالة وصدرت قبل عامين عن هيئة قصور الثقافة ضمن سلسلة "ذاكرة الكتابة" سيجد عبارة يؤكد فيها مصطفى الحفناوى نوعية الدعم الذى تلقاه من الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر خلال حكومة الوفد الأخيرة الذى كلفه بالعمل فى المكتب الصحفى التابع للسفارة ليتمكن من جمع المادة العلمية الخاصة بالرسالة.
والأكثر دهشة أن الحفناوى الذى كان قريبا من ناصر فى مرحلة تالية من حياته ظل أيضا مخلصا للإهداءالذى كتبه فى مقدمة كتابه وخص به الخديو إسماعيل "وفاء وتقديرا لجهده المبرور الذى دل عليه قوله المأثور "إنى أريد القناة لمصر ولا أريد أن تكون مصر للقناة " تمسك بذلك برغم أن الموجة الأعلى فى الخمسينيات كانت العمل على تشويه تاريخ الأسرة العلوية.
وتكشف رحلة البحث فى الأرشيف العديد من المعلومات المثيرى عن الحفناوى الذى وصفه الكاتب الصحفى رشاد كامل بعاشق قناة السويس العدبيد من المعلومات المهمة التى تجعله مقاتلا ومفاوضا أكثر منه باحثا بل هو مغامر بكل ما فى الكلمة من معان.
وحسب رشاد كامل فقد تقدم الحفناوى فى خطوة غير مسبوقة إلى الحكومة عام 1951، باقتراح إنشاء وزارة شئون قناة السويس وحدد اختصاص هذه الوزارة ومستقبل القناة ويضيف: (قد يكون من صواب الرأى أن تسند الوزارة الجديدة إلى أقوى رجل فى الدولة وهو رئيس مجلس الوزراء أو إلى نائبه على الأقل، فمصر تتصل بالجماعة الدولية عن طريق قناة السويس، ويجب أن يكون هذا الاتصال عن طريق أقوى الشخصيات فيها.
لقد كان هدف (د. مصطفى الحفناوى) بغير لف أو دوران تصفية الشركة فى أقرب وقت مستطاع، لأن وجودها متنافر مع سيادة الدولة على إقليمها وبطبيعة الحال أثار هذا الاقتراح غضب السفراء الغربيين.
ووفقا لكامل طالب السفير الأمريكى (جيفرسون كافرى) فى أحد تقاريره لوزارة الخارجية الأمريكية ب (وضع حد لنشاط المحامى المصرى د. مصطفى الحفناوى) الذى اشتد ساعده واستفحل خطره !
وقامت وزارة الخارجية الفرنسية بترجمة مقالات ومواد عدد كامل من جريدته (قناة السويس) وقالت فيه إن (الحفناوى) عدو المصالح الفرنسية فى مصر بل ألد أعدائها وأنها لن تسمح لشركة فرنسية أن نستعين بهذا المحامى المصرى الذى ينفق أتعابه التى تدفعها له فى شن حملاته ضد شركة قناة السويس!
وحاول وكيل الشركة الفرنسية فى القاهرة استمالته بالمال لكنه فشل !!
ويؤرخ الكاتب حلمى النمنم رئيس دار الكتب والوثائق القومية فى واحدة من مقالاته لتاريخ الحفناوى قبل تفرغه لإعداد دراسته عن قناة السويس.
محامى شريان الحياة
مشيرا إلى أن الحفناوى ولد بمحافظة الشرقية والتحق بكلية الحقوق عام 1935 وكان متشبعاً منذ صغره بسيرة وكفاح الزعيم مصطفى كامل، وانتمى إلى الحزب الوطنى وما إن وقعت حكومة مصر معاهدة 36 حتى انبرى يهاجمها، وأصدر كتاباً فى تفنيدها مما عرضه للاعتقال بعض الوقت وانشغل بالعمل السياسى والكتابة للصحف، لذا تخرج بعد سبع سنوات فى الكلية وعمل بالصحافة وبالمحاماة، وكانت القناة قد أصبحت هماً وطنياً لدى قطاعات كبيرة فى مصر، لذلك قرر الحفناوى أن يواصل دراساته العليا بكلية الحقوق وأن تكون قناة السويس ووضعها القانونى موضوعاً لدراسته، ولكنه اصطدم بعقبة لأن كل وثائق القناة كانت فى مقر الشركة بباريس، أى أن القناة على أرض مصر والعمل داخل مصر، لكن إدارة الشركة وكل الأوراق والوثائق المتعلقة بها تنقل إلى باريس والأوامر العليا المتعلقة بتشغيل القناة تصدر من باريس.
ويؤكد كامل أن المصادفة كانت وراء عشق (د. مصطفى الحفناوى) واهتمامه بموضوع قناة السويس، ففى عام 1946 وكان وقتها هو محامى (شركة قناطر إسنا) ودعته لزيارة لندن بالباخرة، وكان هو المصرى الوحيد بين الركاب، وتصادف أن شاهد مواطنا إنجليزيا يتصدر المائدة فى الصباح ويقص على المسافرين أمورا عن قناة السويس بلغة جارحة لمصر والمصريين، وغضب (مصطفى الحفناوى) وقال للرجل بهدوء: إن امتياز الشركة سينتهى فى عام 1968 وبعدها تسترد مصر قناتها، وثار الرجل وكاد أن يضربه وشاركه فى هياجه الأجانب الذين كانوا ينصتون لحديثه، وانسحب من المائدة من فرط الإهانة التى لحقت به حتى وصل إلى لندن!
يقول (د. مصطفى الحفناوى) : طلبت من أحد مرافقيى أن يصحبنى إلى أكسفورد لأشترى الكتب، ولما سألنى أى لون من الكتب أريد ؟ قلت: أريد أن اشترى كتابا عن قناة السويس!
فإذا بالرجل يصطحبنى إلى دار من دور المحفوظات التاريخية كان موظفا فيها، وهى خاصة بمحفوظات قديمة عن قناة السويس ويتردد عليها الباحثون، فما إن تصفحت أول ملف إلا وقد ألقى فى قلبى أن الله تعالى هو الذى رتب كل هذا، وقررت فورا أن ألتحق بجامعة أوروبية لدراسة القانون الدولى دراسة متخصص يعد رسالة علمية عن قناة السويس ويدافع فيها عن بلاده.
وفى هذه الفترة اكتشف (د. مصطفى الحفناوى) تفاصيل مؤامرة تدويل قناة السويس فيقول: (فى سنة 1950 كنت مستشارا صحفيا بسفارة مصر فى فرنسا، وعينت فى هذه الوظيفة خصيصا لغرض واحد كان يعرفه سرا رجل واحد عاوننى فى هذه المهمة، وهو الدكتور (محمد صلاح الدين) وزير الخارجية يومئذ الذى دبر معى هذه الحيلة وأنا مشغول بإعداد رسالتى لأتمكن تحت ستار دبلوماسى من الاتصال بشركة قناة السويس كى أنقب فى ملفاتها، وفعلا نجح التدبير وفتح لى (شارل رو) رئيس مجلس إدارة الشركة بنفسه محفوظات الشركة فى باريس، متوهما أنى أعد كتابا عن القناة لمصلحة شركته الاستعمارية، وكشف لى عن أوراقه، وأوقفنى على فكرة التدويل وطلب قيام لجنة دولية تابعة للأمم المتحدة تحل محل الشركة قبل انتهاء أجل الامتياز وأطلعنى على المشروع) !!
ويذكر على الحفناوى فى رسالته ل"الأهرام" أنه بعد قيام ثورة52, دعا محمد نجيب الدكتور الحفناوى لإلقاء محاضرة عن قناة السويس أمام جموع ضباط الثورة بنادى الضباط يوم17 نوفمبر1952. وفى ختام المحاضرة، وقف محمد نجيب ودعا الضباط إلى ترديد قسم باستعادة القناة. وظل الدكتور مصطفى الحفناوى يجاهد من أجل تأميم القناة مصدرا جريدة أسبوعية أسماها قنال السويس، وفى نوفمبر عام 54 صدر قرار جمهورى بإعادة تشكيل مكتب القناة برئاسة د. حامد سلطان وعضوية محمد الغتيت ومصطفى الحفناوى وكان المكتب يتبع رئاسة الجمهورية ومهمته «دراسة أوضاع القناة واحتمال تأميمها» .
واللافت للنظر أن جمال عبدالناصر استدعى الحفناوى فى أحد أيام عام1954، وقال له: إن جريدتك وهجومها على شركة قناة السويس العالمية، تعوق مفاوضاتنا مع الإنجليز، فهم يرفضون الجلاء مادامت الحكومة المصرية تؤيد إصدار هذه الجريدة وما يكتب بها. فأرجوك يا دكتور أن توقف إصدارها ولا تتحدث عن القناة فى أى مكان عام حتى يتم الجلاء، وأعدك بعد جلاء آخر جندى بريطانى بتأميم القناة.
دار هذا الحديث فى أثناء غداء تم ترتيبه بمنزل صديق الدكتور الحفناوى المستشار محمود عبداللطيف، والذى كان على صلة قرابة بعبد الناصر. وتوقفت الجريدة بالفعل، وتم توقيع اتفاقية الجلاء عام1954, ورحل آخر جندى بريطانى عن مصر يوم18 يونيو1956.
وفى 24 يوليو 56 استقبل عبدالناصر د. الحفناوى وصارحه بأنه قرر تأميم القناة وطلب الحفناوى تأجيل القرار عدة شهور لحين تهيئة الرأى العام لتلك الخطوة، وعهد عبدالناصر إلى مكتب القناة بإعداد قرار التأميم، ولأن أستاذ القانون ورئيس المكتب د. حلمى بهجت بدوى كان متغيباً فى الخارج، فقد تولى الأعضاء وضعه، ومن أبرزهم الحفناوى نفسه ومحمد على الغتيت والمستشار بدوى حمودة ممثلاً لمجلس الدولة والمستشار حسن نور الدين بوزارة الداخلية.
وفى نهاية لقاء استمر15 ساعة حتى فجر اليوم التالي، طلب عبد الناصر من الحفناوى صياغة قرار التأميم. فكان هذا القرار التاريخى نقطة تحول فى علاقة الشرق بالغرب.
وفى مقال له حول تاريخ الراحل يذكر الكاتب الصحفى رشاد كامل أن الحفناوى كتب وقبل عامين من تأميم (قناة السويس) فى 26 يوليو سنة 1956 يقول بالحرف الواحد " إن شركة قناة السويس أبت إلا أن تكون دولة داخل الدولة، فهى ليست مجرد مؤسسة تجارية تدير الحركة الملاحية فى قناة السويس وتحصل رسوم المرور نيابة عن الدولة المصرية، كما كان المراد بإنشائها، ولكنها خرجت على الحدود الواردة فى الفرمانات وفى نظامها الأساسى، وتوسعت فى الإدارة والاستغلال إلى أبعد الحدود على حساب سيادة مصر واستقلالها، وقد أهدرت أحكام القانون ومبادئه الأساسية، ولا يمكن علاج هذه الحالة الصارخة إلا بزوال هذا المسخ الذى ليس له مثيل بين الشركات ".
كتب مصطفى الحفناوى بعد ان انتهى من كتابة الجزء الثالث من كتابه معلقا على قرار التأميم أن هذا الإجراء التاريخى الذى اتخذه السيد الرئيس «جمال عبدالناصر» لم يكن بالنسبة لى مفاجأة غير متوقعة، فأنا أعلم من سنوات مضت أن سيادته كان دائم البحث والتفكير فى أمر شركة قناة السويس السابقة،كقيد خطير من القيود التى فرضت على سيادة مصر، وأعلم أنه بعد بحث عميق للمشكلة أعد برنامجه ووضع خطته بمفرده، واختار الوقت الذى رآه مناسبا لتسديد ضربته المباغتة للاستعمار، ويأبى السيد الرئيس فى هذه اللحظات الحاسمة إلا أن يكون منصفا للعاملين من أبناء هذا البلد، ولن أنسى قط استدعاءه لى فى مساء 23 من يوليو سنة 1956 وكنت فى صميم الريف منصرفا للزراعة ليفضى إلى نبأ قراره التاريخى، وكان الخبر وقتئذ محوطا بتكتم شديد، وكانت هذه الثقة الغالية أكبر عزاء لشخصى الضعيف.
السمسمية. . أغانى الفرح والمقاومة
تعتبر بورسعيد حديثة العهد مقارنة بباقى المدن المصرية، فقبيل حفر القناة لم تكن غير شريط ضيق من اليابسة يفصل بين البحر والبحيرة، وإن بدأت بالتشكل بعد أول ضربة فأس إيذانا ببدء الحفر ، حتى أصبحت مدينة وميناء سبقت افتتاح قناة السويس للملاحة 1869.
وبرغم تعدد الأجناس التى استقرت بها، فإنها بقيت منقسمة إلى حدين كاسمها، فشرقها الملاصق للميناء أصبح حى الإفرنج الذى قطنه الأوروبيون، وإلى الغرب منه كانت قرية العرب.
وكما جذبت إليها المهاجر والمغامر، حملت بورسعيد روح الحداثة إلى مصر وجديد زمانها، فشهدت إقامة أول محطة تحلية لمياه البحر فى العالم وبها شيد أول مبنى بالخراسانة المسلحة فى مصر، وهو فنار بورسعيد القديم.
لكن بورسعيد بتكوينها كنصفين أو مدينتين متلاصقتين ينفصلا عند كل غروب، تركت إحساسا عميقا بالمرارة لدى المصريين من ساكنيها.
وصل بالمتناقضين إلى حد الصراع، بداية من المشاجرات فى الشوارع إلى الحسم بالحرب لاحقا، ولم يكن العنف وحده هو مجال إثبات الذات، بل كان هناك تنافس من نوع آخر، ففى حين كان يشهد حى الأفرنج حفلات "الباللو" فى الجانب الشرقى ، كان الجانب الغربى يشهد حلقات الضمة وحفلات السمسمية، جانب يغنى ويرقص بحرية، والجانب الآخر يغنى ويرقص شوقا إلى الحرية!
وفى الأربعينيات تتجه السمسمية لتبنى قضية الوطن آلاما، وتغنى ما ردده شعراء القاهرة، حين لحن حسن متولي: إذا استعصى على القاسى دوائى، ولم أجد السبيل لبرء دائي، فقل يا نيل مصر اليوم تبغى من الحلفاء تعجيل الجلاء!
وفى حين ظلت السمسمية المقبلة من الجنوب بإيقاعها الخماسى السريع هى الأقرب استجابة للواقع المعاش، ظلت حلقات الضمة المقبلة من الغرب الدمياطى تردد الموروث وتحافظ عليه بمنتهى الصرامة، حتى أتت لحظة الذروة لتجمعهما معا فى حلقة واحدة، حين وقعت المعركة الفاصلة فى تاريخ بورسعيد ، حرب 1956!
والتى رحل الأجنبى الأوروبى من بعدها، وخرجت السمسمية لتغنى أغانى النصر، وتصبح من يومها أيقونة للمقاومة.
ولأول مرة، يتعرف المصريون على نغمات السمسمية من خلال الإذاعة، حين قام راعى الفن الشعبى زكريا الحجاوى بتكوين خماسى السمسمية أواخر الخمسينيات، وما قدمه الفنان الساخر سيد الملاح أواخر الستينيات.
وحين عادت الحرب لتجتاح المنطقة بعد هزيمة يونيو، فكأنها استدعت "السمسمية" مرة أخرى، سلاحا للحشد والمقاومة، ففى السويس يكون الكابتن غزالى فرقة ولاد الأرض ويكتب أغانيها، وكذلك فى بورسعيد يجمع الشاعر كامل عيد عمال الترسانة ويكون فرقة "شباب النصر" ويكتب أغلب أغانيها.
وفى شتات التهجير الذى عانته مدن القناة ، كانت أنغام السمسمية أشبه بالطقس المقدس الذى يجمع البورسعيدى بالسويسى بالإسماعيلاوى حين يغنون معا أغانى أولاد الأرض وشباب النصر دون فرق، وكأن الغناء هو ما يتقربون به إلى مدنهم ويعجل بعودتهم إليها!
غير أن تلك الروح العفوية الحرة التى سادت أهل الصحبة وأرست لتقاليدها، ما لبثت أن تراجعت عن عفويتها وإبداعاتها التلقائية بمجرد قولبتها سواء فى فرق الثقافة الجماهيرية أم المعتمدة على التمويل، فأثقلت عليها بالأطر البيروقراطية وغلبت بين أفرادها السعى للتكسب، مما أوقف تيار الإبداع وأوقعها فى نمطية التكرار كأى فرق تؤدى فقرات على المسرح.
ولا أحد يستطيع الآن أن يتنبأ، إن كان سيضمحل هذا الفن ويندثر على أيدى من يدعون المحافظة عليه، أم سنشهد مرة أخرى انطلاقة تعيد إليها تلقائيتها وتعيد ارتباطها بمحيطها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.