أن تكون لك بصمة، شخصية، ملامح فنية أستطيع أن أتعرف من خلالها علي إبداعك دون أن اقرأ اسمك موقعاً عليه. أن تغرق في معايشة فكرتك حتي تصبح جزءاً منها، وتصبح جزءا منك، أن تغوص في بحور شخصياتك وتغزل من تفاصيل حياتهم نسيجاً درامياً مبهراً، أن تنطلق من الواقع بكل آهاته وحماقاته لتحلق في فضاء الفن وسماء الخيال، أن تنحت من طين المعاناة تمثالاً بديعاً ينطق بالحياة. أن تفعل ذلك كله يعني أنك فنان حقيقي، أصلي. فنان بجد. السطور السابقة حرضتني علي كتابتها تجربة فنانة تنتمي لجيل الشباب بلغة الأرقام، لكنها تنتمي أكثر إلي المدرسة القديمة في الدراما المصرية، مدرسة الفنانين العظام الذين ذابوا في إبداعهم واخلصوا لموهبتهم، لم يفكروا في مال أو ثروة، بل كان الفن عندهم هوي، عشق، وشغف يستحق أن يمنحوه أنفسهم وحياتهم. هذا ما أشعر به وأنا أتابع باهتمام وترقب تجربة «كاملة أبوذكري» المخرجة السينمائية التي جعلت لاسمها جرسا معينا، ما أن يذكر أمامك حتي تستدعي أشياء لها معني. الفن الحقيقي.. الأفكار الجديدة.. اللغة السينمائية الراقية.. اللقطة الناطقة رغم صمتها.. المشهد المفعم بالمشاعر الذي يستغرقك تماماً لتتوحد مع أبطاله وتنفصل عن واقعك. في مسلسلها الأخير «سجن النسا» الذي عرض في رمضان فعلت كاملة ما كان يفعله الفنانون العظام في أوج مجد السينما والدراما المصرية، عاشت أجواء القصة بكل تفاصيلها هي وفريق العمل الرائع، الكاتبة مريم نعوم والفنانة نيللي كريم. ثلاثي يمثل حالة فنية فريدة وهارموني فكري وفني نادر. سجن النسا.. عمل فني فتح أبواب السجن المغلقة علي حكايات تفوق في غرائبيتها قصص ماركيز وإيزابيل الليندي، رائدي الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية، لم تدر المخرجة عدسات كاميراتها لتنقل لنا صورة السجن والسجينات والسجانات، بل استطاعت أن تجعلنا نري عورات المجتمع بوضوح، ذلك المجتمع الذي يفرم النساء الفقيرات، وينتهك آدميتهن، ويدفعهن إلي مصائر تعسة المسلسل فتح أبواب السجن المغلقة علي أسرار نساء دفعن حياتهن ثمناً لغلطة ربما تكون واحدة لكنها كانت فاصلة ونهائية، العديد من المسلسلات والأفلام تناولت السجن لكن بصورة سطحية أقرب إلي الخيال والصورة النمطية السائدة، لكن سجن النسا نجح في النفاذ إلي ما وراء القضبان. وهنا يتجلي دور قائدة العمل، صاحبة الرؤية، الفنانة القديرة كاملة أبوذكري، التي امتعتنا بعمل يستحق المشاهدة في رمضان، واستطاعت أن تخرج من نيللي كريم، روبي، سلوي خطاب، درة، نسرين أمين طاقات فنية مذهلة جعلتنا نعيد اكتشافهن من جديد. تحية للكتيبة النسائية المتوهجة بالإبداع: كاملة أبوذكري، مريم نعوم، هالة الزغندي ونيللي كريم.