من أجمل المواقف الإنسانية عودة الأم لأبنائها، وارتماء الأبناء في أحضانها بعد طول غياب، انتابتني تلك المشاعر الراقية مع إثنين وثلاثين مليوناً من المصريين ملأوا ميادين التحرير علي مستوي الجمهورية منذ صباح الثلاثين من يونيو. فمصرنا التي "تعيش فينا" كنا قد أسلمناها في عرس ديمقراطي إلي فصيل من أبنائها تصورنا أنهم كما قالوا "يحملون الخير لمصر" لكنهم تنكروا لتاريخها ومزقوا نسيجها، وشحب في عيونهم وهج إبداعها، وضلوا الطريق إلي السماحة التي تميز أزهرها وكنيستها. وحرصوا في مشروع "نهضتهم" علي العبث تحت أقدامها "فعسكروا" جيشها، وأهانوا رجال أمنها، وحاولوا النيل من قضائها، واسترخصوا أرضها، واستخفوا برموزها، وعرضوا للبيع قناتها، وتنازلوا عن "شلاتينها، وهددوا إعلامها، واستذلوا "بالجودة" علماءها، ورموا "بالفسق" نجوم فنها، وكادوا أن يهيلوا التراب علي أمجادها. أداروا مشروع نهضتهم بجهلاء عشيرتهم، وأقاموا في مواقع الحكم محدودي الخبرة من قومهم، وأصدروا من الدساتير والتشريعات ما يساعد علي "تمكينهم". لقد أحطناهم منذ البداية بأطيب التمنيات، لكن تجربة التنفيذ لم تأت لهذا الشعب بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ولكن جاءت بمحاولة "تقزيم" مصر لتكون مجرد (إمارة) في مشروعهم. باسترجاع تجربة إدارة مصر خلال العام المنصرم نتوقف أمام عديد من الظواهر التي تتنافي مع القيم الإسلامية، ومع مبادئ الإدارة الحديثة ومنها: - السلوك المنافي للسياسات والمبادئ المعلنة مثل التحيز للأهل والعشيرة رغم الإعلان أن الرئيس لجميع المصريين. - عدم المصداقية وتزييف الحقائق بما يتناقض مع الواقع الملموس في مواقف عديدة مثل التلاعب بالأرقام الاقتصادية عن السياحة والمعروض من الوقود وأسعار المواد الغذائية والأسعار والإنتاج من القمح. - إدعاء أن المشاكل التي يعاني منها المواطنون هي من أثار المرحلة السابقة. - الاستخفاف بعقول المواطنين عند الوقوع في أي اخطاء والتهرب من المسئولية بادعاء أن الوزراء لاينتمون إلي حزبهم ، رغم ان المسئولية عن إدارة الدولة قد أولاها الشعب للرئيس ، وبمقتضي صلاحياته له حق اختيار المسئولين وتفويضهم الصلاحية اللازمة لحل المشاكل فهو بذلك مازال مسئولا لأن تفويض السلطة لايعفي من المسئولية. - شغل المناصب المختلفة بالشخص غير المناسب ، تفعيلا لمبادئ الولاء والقبلية وخروجا علي مبدأ الكفاءة. - تطبيق مبدأ ( التمكين ) من منظور سيطرة الأهل والعشيرة علي مفاصل الدولة. - الانقضاض علي عمود الحكمة وأساس الدولة وهو القضاء عندما حاولوا التخلص من أهل الحكمة من شيوخه بتخفيض سن التقاعد والدفع بأجيال جديدة من كوادرهم في بداية السلم القضائي ، وبالتالي تتغير الثقافة وتتبدل القيم. - الإسراع بليل لإصدار دستور لم يحظ بتوافق مجتمعي وخرج من الإستفتاء بطريقة ( قسرية ). اقدموا علي هدم باقي أعمدة الدولة بالشعارات المغلوطة التي اطلقوها ضد الجيش والإشاعات التي سربوها عن جهاز المخابرات العامة ، والاستخفاف الواضح في بالتطاول علي الرموز الدينية. - عدم الشفافية والتعتيم علي حقائق عديدة تمس أمن الوطن وحياة المواطنين مثل من قاموا باغتيال جنودنا في رفح وأسماء من قاموا بخطف الجنود السبعة والحقائق المتصلة بمشروع ( أقليم ) قناة السويس والاتصالات التي جرت بشأن مياه النيل وغيرها. - الإدعاء الخاطئ بأن ديمقراطية الصندوق تعطي الحق للفائز بأن يعيد صياغة أركان الدولة طبقا لرؤيته ، وتجاهل الحقيقة المستقرة في الدول الديمقراطية بأن ( تداول السلطة ) يقوم علي المنافسة لخدمة المواطنين وتحسين مستوي معيشتهم، وأن البرامج الانتخابية للأحزاب لاتتطرق إلي هدم أركان الدولة وإعادة صياغتها طبقا لرؤية أحادية ، لأن هذه الأركان تمثل أعمدة البيت الذي نعيش فيه جميعا ولايسمح لفصيل بالاقتراب منها ، لأن استقرارها يعني وجود دولة عميقة ذات مناخ إيجابي يجذب المستثمرين ويعطي الأمان لكل طرف حتي يعمل الجميع ضمن منظومة وطنية ومستقرة لصالح التقدم والرفاهية. بصفة عامة فقد هيأت تلك الممارسات مناخا ( بركانيا ) تنوعت فيه ردود الأفعال مابين الخوف والذعر والقلق علي مستقبل هذا الوطن ولكن ذلك لم يدم طويلا، فقد كانت عيون الأبناء علي الأم شاخصة، وقلوبهم عليها واجفة، فلم تنكسر لهم شكيمة، ولم تهدأ لهم سريرة حتي أشرقت شمسها (بتمرد) براعمها و(ملح أرضها)، فاستحثوا توقيعات قومهم ونظموا صفوفهم وشحذوا عزيمة شعبهم، فخرجت مع فجر الثلاثين من يونية جحافل ملايينهم ليستعيدوا كرامة أمهم التي عادت إليهم شامخة رافعة هاماتها.