لم يفاجئنا مكاوي سعيد بكتابه مقتنيات وسط البلد بعد أن كتب رواية تغريدة البجعة فأحداث الكتابين تدور في مكان محدد من وسط البلد. وأبطال الكتابين من كائنات وسط البلد مثل الكاتب تماما لكن المهم هنا, وبعيدا عن الرواية, هو أن الكتاب ضم مجموعة ضخمة من مثقفي وسط البلد, وبالذات رواد مقهي زهرة البستان الذي ظهر في خمسينات القرن الماضي الي جوار مقهي ريش الشهير, وبرز كأحد اماكن تجمع المثقفين في السبعينيات. وفي منتصف الثمانينيات قفز مقهي زهرة البستان ليحتل المساحة الأكبر للحالة الثقافية المصرية. بينما كان مقهي ريش يودع أسباب شهرته ليقتصر وجوده علي سمعته السابقة وتقديم وجبات للأجانب وبعض المصريين وضيوفهم. ابطال كتاب مكاوي سعيد, وهو ضمنهم, يشكلون جزءا كبيرا من جيل الثمانينيات الافتراضي, بالمعني المجازي الذي سحق تماما تحت أقدام جيلي الستينيات والسبعينيات, وغطي بجيل التسعينيات الذي حظي باهتمام بالغ كان سببا رئيسيا في إبادته وتحويله الي جيل افتراضي بالمعني الحرفي ليظل جيلا الستينيات والسبعينيات يسيطران علي الساحة الثقافية المصرية بحالتها الآنية التي لاترضي عدوا فما بالنا بالجار والحبيب. وبعيدا عن الاتهامات والإدانات, فجيل الثمانينيات من المثقفين والمبدعين حاضر في كتاب مقتنيات وسط البلد ونري فيه جزءا كبيرا منه بتفاصيل حياته. وإذا تأملنا هذه التفاصيل سندرك أسباب عدم وجود هذا الجيل علي خريطة الثقافة المصرية. وكلمة مقتنيات تحتمل وجهين متناقضين قد يكون أحدهما جيدا ولكنه يثير الأسف والحزن والأسي, والثاني سيئا يثير الشفقة والسخرية. أفراد جيل الثمانينيات ماتوا أو هاجروا أو رحلوا إلي مهن ووظائف وحالات أخري, بما فيها الجنون والإحباط والحقد والحسد والصراعات الجانبية. أما السؤال عن المذنبين, فلن نتلقي عليه أي اجابة مهما طال الزمن, لأن إجابات ابناء الجيل ستكون غاضبة ومرعبة ومليئة بما قد يهز هيبة البعض ويطيح بها. أما إجابات الآخرين فلن تكون شافية أو وافية, لأن بين هؤلاء الآخرين بالذات من كانوا سببا في سحق هذا الجيل والعيش علي إبداعاته التي قرروا ألا تري النور أبدا. وبالتالي سيبقي كتاب مقتنيات وسط البلد تميمة علي صدر هذا الجيل تذكر المذنبين بجرائمهم التي اقترفوها ومازالوا يقترفونها إلي وقتنا هذا, ولاندعوا لهم إلا بالعمر المديد فقط. أما ألبوم صور زهرة البستان الذي تفتق عنه ذهن ناجي الشناوي, فهو وجه آخر للمقتنيات يخفف من حدة المأساة ويؤسس لثقافة خاصة تتعلق بالمقتنيات الحية التي تدرك حجم الكارثة. لقد تمكن ناجي الشناوي من جمع ألبوم صور علي مدي أكثر من20 عاما لأجيال عديدة غادرنا معظم أفرادها وعلي خلفية أنساك يا سلام, أنساك دا كلام يعرض ناجي الشناوي ألبومه أو فيلمه المصور لمدة25 دقيقة نري فيها وجوها غادرتنا إما بالموت أو بالرحيل والهجرة مع نهاية الفيلم أدركت تماما أنني تجاوزت السن القانونية وأصبحت عجوزا. فهناك صور لأشخاص بيننا يبلغ الفارق الزمني بينها أكثر من30 عاما. الوجوه غير الوجوه والملامح غير الملامح والابتسامات والنظرات مختلفة تماما عما هي عليه الآن وعما كانت عليه آنذاك. هذا الألبوم جمع درر مبدعي جيلي الستينيات والسبعينيات وما قبلهما ايضا. ولكنه ركز علي الجيل المنكوب وليس جيل النكبة. يجب ألا نحمل مكاوي سعيد أو ناجي الشناوي ذنب الاختيار. ومن السطحية أن نتهمهما بالانتقائية أو إعداد سيناريو مسبق لاختيار هذا واستبعاد ذاك أو التركيز علي هذه الشخصية والمرور سريعا علي تلك. إن ثقافة وسط البلد الحقيقية, سواء في المقتنيات أو في الصور, لعبت دورا رئيسيا في خروج العملين بهذا الشكل بالذات لتعلن عن ثقافة اخري ظلت قادرة علي الحياة بكل قوة وستامح وحب وتطور وسط المصائد والكمائن والمؤامرات والتجاهل المتعمد والغيرة. بين كتاب مقتنيات وسط البلد وألبوم صور زهرة البستان تبرز عشرات الأسئلة والاتهامات وبعيدا عن الحزن والأسي والدموع الحقيقية, تظهر ابتسامة لها اكثر من معني, ويبرز سؤال لاينتظر أي أجابة: هو إيه اللي حصل بالضبط؟! لماذا قفزوا علي جيل الثمانينيات ومزقوه الي حد التلاشي؟ لماذا التمسك إلي الآن بأجيال عتيقة ابداعيا ومثيرة للشفقة, ولماذا الإلحاح في فرض الكثير من أفراد أجيال بعينها علي الذائقتين البصرية والسمعية؟ ومن هم الكهنة الحقيقيون وراء توقف الزمن وتحجر الحركة الثقافية المصرية؟ إن لم تكن هناك إجابات فهذا أفضل وإذا ظهرت إجابات فنتمني ألا تكون مريحة للضمير. قد تظهر إجابات ماعبر وسائل الإعلام, وبالذات الثقافية وإن كنت اشك كثيرا في ذلك لأسباب معروفة جيدا! كل ذلك يعيدنا إلي نموذج المثقف الراقص الذي صار مفاوضا ناجحا بفضل ما اكتسبه من خبرات سياسية سرية, ومرونة في طرح الأفكار عموما وأفكاره الشخصية علي وجه الخصوص وتذويب الحدود الزمنية بينها, وقدرات جبارة علي الحركة بين الإعلام والثقافة والقبض علي مفاتيح بعض الدهاليز والكواليس المعتمة ولكن عندما تضاء خشبة المسرح حول المثقف الراقص تتحول الدهاليز والكواليس الي امكانات اضافية لإغراء المريدين من الجماهير العريضة التي تردد حكم الراقص الذي لايبالي إلا بنجاحاته وقدراته علي الرقص بين الذئاب, علي حد إدراك هؤلاء الراقصين أنفسهم. المثقف الراقص يستخدم كل إمكاناته الجسدية والذهنية في العلن, لأنه لم يعد يملك مايمكن أن يفقده ويندم عليه.