لن تزول مصر من الأذهان والقلب.. لن تزول تلك البقعة الكونية المباركة من ساحة الكرة الأرضية مهما اشتد الخلاف, وطاشت الآراء, وغامت الرؤية.. لن تهون مصر علي أبنائها مهما تفرقت بهم السبل. وتنازعتهم الأهواء, وجمح بهم الخيال, وشتتهم الجموح, وعصف بهم الوهم, فمصر هي عين اليقين, والشعاع المقدس الذي يستظل به أهل الأرض, فهي معني الوجود والحقيقة المقتحم دروب الزمن وأغواره. إن شموخ مصر لن يبدده صراع السلطة الفانية, وإن منعطفات السياسة مهما تناءت لابد لها أن تنطوي تحت لواء الوطنية الحقة, لا وطنية الصوت الأجوف المقيت المهدر للمصالح العليا مقابل تبني الصغائر والدفاع عنها, فلا شيء يقاس مطلقا علي تلك المصالح, بل أي شيء يمكن أن يقاس عليها؟! وغدا ختام يونيو هو الفرصة المرتقبة لتأكيد تلك الوطنية السمحة القديمة وإحيائها, والخروج من ذلك المأزق التاريخي باستعادة الروح المصرية الأصيلة, والدخول بها تاريخا جديدا, وإذا كان المناخ العام وتوجهات الفكر السياسي والديني قد حالت دون وجود وفاق وطني قومي صريح لا مواربة فيه, انطلاقا من سيادة مبدأ التعصب والانغلاق داخل دوائر قاتمة, وشيوع الجهالة بالعصر المعاش ومعطياته المتغيرة, وغياب الوزن الحضاري لمصر, وهواية التحليق والصدارة, وتوسيع الفجوة بين الأشياع والأضداد, وحب النيل من الآخر واستهجانه, والتعامل مع الدين كمطية وليس في كغاية في ذاته, وتوزيع أبشع الاتهمات في سهولة ويسر وسلاسة, وادعاء القداسة الدينية, والاستخفاف بالثقل الشعبي, والإصرار علي التشرذم والانقسام في إطار معطيات دينية غير مسموح باستخدامها إلا في أفق ضيق حسب المنظور الإسلامي. لكن ذلك لا يعني مطلقا في إجماله وتفصيله أن تكون مصر هي الثمن الباهظ الذي سيتكبده الجميع عندما تسقط القضية الخلافية بسقوط القضية الكبري, فمن يقول إن المصري المسلم لابد أن يتواجه في حدة ورعونة مع ابن وطنه, وابن تاريخه, وابن حضارته, ومن أجل ماذا؟؟؟ من أجل نظام؟ كيف والأنظمة تزول؟ من أجل سياسة؟ كيف وللسياسة تغيراتها اللحظية؟ من أجل عقيدة؟ كيف وكلنا نشارك في الإيمان بها؟ من أجل أشخاص, كيف وفي خضم السياسة والاستراتيجية ليس هناك أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين, وإنما تظل المصالح الدائمة هي الفيصل والمحك, من أجل جماعة؟ كيف وهي يمكنها لفظك والإطاحة بك حين تنحو منحي آخر لا يساير توجهاتها؟! من أجل القناعة بفكرة كيف والأفكار طبيعتها التطور والتغير المتوالي, وربما التناقض المفزع, من أجل الشرعية ففي الثورات لا مجال إلا للشرعية ا لدستورية, أو شرعية الأداء والإنجاز وشرعية الرضي الجماهيري, لكن من أجل الذات ليس لكم إلا مصركم فاعتصموا بها واجعلوها محرابكم وميثاقكم, مدوا لها يد الاحتواء انتشلوها من الضياع والهباء, لا تخافوا إلا من الخوف عليها, انبذوا الاحتواء, اهجروا التطرف, أشيعوا السلام الاجتماعي والتواد, استعيدوا الألفة, تيقنوا أن الخطأ أساس الصواب, وأن الحكمة هي ضالة المؤمن, وأن الكمال هو غاية منشودة, وليس صفة مستقرة متحققة في الواقع, والعلم هو فضيلة الفضائل, وإنه عندما يموت القانون تبدأ مسيرة الطغيان, وأنه لا عبادة كتفكير, وأن لغة الحوار ستظل هي اللغة الإنسانية الرفيعة المحققة للمآرب والغايات, وأن الجدل ليس كفرا ولا يعد من الموبقات, وأنه دائما في أزمنة الفوضي والانحطاط يكثر الحديث عن المبادئ العظيمة كما قال برخت. علينا أن نطرح علي أنفسنا سؤال الحاضر ونسحق أسئلة الماضي؟ لنسأل أنفسنا من نحن؟ ومن نكون؟ ليكن سؤالنا الدائم: لماذا تخلفنا عن الموكب الإنساني سنوات ضوئية بينما ظلت شهيتنا مهيأة للحياة؟! لماذا لا تشغلنا عطائم الأمور بينما تقهرنا صغائرها؟ إن الإجابة علي هذه التساؤلات تعد مفحمة للذات الآثمة المعتدية علي حرمات الذوات الأخري المستسلمة الوادعة التي لا تنشد سوي الخبز, والحرية والعدالة, والديمقراطية, ليكن هدفنا الأسمي هي الحث علي إعادة بناء الدولة بعد تصدع أركانها وانشطارها, بل استعادة معناها في دواخلنا هيبة ومكانة وكرامة وتاريخا وحضارة, فدور مصر المعطل لن يفعله إلا الشرفاء والممتازون من الناس الذين لا يريدون لمصر إلا, ولا ذلة, ولا مهانة لأنهم هم الذين يتوقون شوقا لاقتناص الحلم المصري المؤمل, وهم أيضا الذين يوقنون أن الخطر الخارجي المحدق بمصر هو أكبر كثيرا كثيرا مما يتصور أهل الغفلة فأقله وظاهره ما يحاك من الحيل والمؤامرات وما ينصب من فخاخ ويقنن من استراتيجيات لتنطلق حرب الدعاية والتشهير معلنة سقوط المارد المصري, أما قلبه وباطنه فإنه يحمل من الحمم والفظائع ما لا طاقة لأحد به, فمصر كانت دوما هي الهدف الاستعماري الذي يسمونه بالجائزة الكبري, بينما نحن نعارك أنفسنا وننال منها في حلبة ضيقة لنتقمص مجددا دور أهل بيزنطة حين استوقفتهم عقولهم أمام قضية غير جادة تعد من الرفاهيات الفكرية التي أطاحت ببيزنطة نفسها حين استبدلت ما كان يهدد بقاءها بالذي هو أدني, لأنه من يأبي قبول النصيحة التي لا تكلفه شيء سوف يضطر في الغد إلي شراء الأسف بأغلي ثمن كما قال حكماء التاريخ!! رابط دائم :