ليس هزلا وقت الجد أن أتحدث عن عالم الميكروباص, لأن هذا العالم جدير بالقاء الضوء عليه, كونه يلخص حالة مصر الدولة والشعب, ويجمع في طياته كل المتناقضات, ويمثل بيئة مناسبة جدا لاكتشاف أنماط التفكير, وأدواء المجتمع الخفية, وساحة واسعة للاطلاع علي مكنونات الأنفس ومعاناة الناس, ومدي استعدادهم لادارة المواقف الطارئة, وتفسيرهم للظواهر الناشئة, وقبولهم أو رفضهم لتحولات الساسة ومواقف السياسيين. أصبحت منذ عدت من الخارج ضيفا دائما علي ال ميكروباص, والتي تتفوق فيه مصر علي سائر الدول من حيث العدد وسوء التنظيم, مع ما صاحب انتشار هذه الوسيلة في الربع قرن الأخير من تغير النسق الأخلاقي لتعامل السائقين مع الركاب, ونشوء جماعات مصالح ميكروباصية تتحكم في المواقف وفي خطوط السير, وتستند الي بنية بشرية يمثل رجال الشرطة أحد أنويتها الأساسية, تملكا وتسترا علي المخالفات والأخطاء, لدرجة أن أصبح لهذا العالم قانونه الخاص, بعيدا عن قوانين الدولة, وأصبح مثلا بامكان السائق أن يقسم المسار الي مراحل لكل منها أجرة مستقلة, أو أن يقطع خط السير فجأة ويفرض علي الركاب النزول, أو يتوقف عن السير لخلافه مع راكب علي الأجرة أو لأي سبب آخر فيأخذ الكل بجريرة البعض, ويؤدب الركاب علي ما اقترفه ذلك المارق العاصي المتجرئ علي مقام سيادة السائق. وفي عالم الميكروباص ستجد أطفالا وشبابا غير مؤهلين للقيادة يركبون السيارات, وستجد مركبات متهالكة لا تصلح للسير, وستفاجأ بغياب مواصفات الأمان والسلامة في معظم المركبات, وستقاوم رغبة عارمة في الاحتجاج والاعتراض, عندما يسير السائق بسرعة جنونية ويتلوي بين السيارات ليتخطاها وكأنه في مهمة انتحارية, أو يتلفظ بألفاظ خارجة عن المألوف وتخدش الحياء, أو يعلي صوت الميكروفونات بشكل يصم الأذن وبمختارات من أغان هابطة وأصوات خشنة مزعجة لاتنتمي للفن من قريب أو بعيد, وعدم احتجاجك هنا لايعني سوي خوفك- أو بالأحري جبنك- من رد فعل السائق, الذي يتمثل عادة في رد بذيء أو توقف عن استكمال السير, أو حالة من تكدير الركاب جميعا بالامعان في السير الجنوني والتوقف المفاجئ لسبب ولغير سبب, وانهاء خط السير قبل النهاية بمسافة كبيرة. أما الركاب فمنهم الجريء, المتمسك بكرامته, المصر علي حقه, ومنهم المستسلم الذي لايناقش فرمانات السائق مهما كانت درجة الظلم والجور والتعدي علي حقوق الركاب فيها, ومنهم البين بين الذي يتطوع باصلاح ذات البين لكنه علي استعداد أيضا للتفريط في حقه أملا في الوصول لغايته المكانية بالسرعة المطلوبة وحتي لاتتعطل مصالحه, وان كان لايدري أنه بسلوكه هذا, الذي يكون دائما منحازا للسائق علي حساب الركاب, يرسخ نفس القيم السلبية في هذا العالم العجيب, ويجعلها عرفا سائدا ونمطا لايمكن الفكاك منه وتغييره لأمد طويل. قامت الثورة ولم يتغير في عالم الميكروباص شيء, بل زادت حالته سوءا ودخل عليه جديد هو النقاشات السياسية الحرة المفتوحة بلا سقف بين أناس متنوعي المشارب والثقافات والبيئات والأعمار, والتي تختلط فيها المعرفة بالجهل والصواب بالخطأ والغث بالسمين, لكنها في النهاية تشير الي حالة من التعافي السياسي, وتؤسس لمرحلة جديدة سيصبح الانسان المصري فيها هو صاحب القرار بلا منازع, مهما تلون السياسيون وتحولوا من النقيض الي النقيض. عالم الميكروباص في مصر الثورة يعكس بالضبط حالة مصر الدولة, التي مازالت تعاني من غياب تطبيق القانون, وعشوائية التفكير, واضمحلال الابداع, وتحكم رجالات الدولة العميقة, من أصغر فراش الي أكبر موظف, في مصالح الناس, أما السياسيون فقد زاد عبثهم وتراجعت رؤاهم الواقعية لحل ما نعانيه من مشكلات, وتفرغ كثير منهم للمكايدات السياسية واشعال الفتن والحرائق, والانقلاب علي الدولة كفكرة ونظام, بغض النظر عن نتائج هذا العبث, وقد آن الأوان فعلا لأن ننحي ثقافة الميكروباص الدولة والدولة الميكروباص ونتجه بقوة الي مقاومة هذه الثقافة الي الأبد. [email protected] رابط دائم :