في ظروف تاريخية وسياسية معينة نجح قنصل فرنسا بمصر المدعو فرديناند ديليسبس في انتزاع موافقة الخديو إسماعيل علي وضع تمثال له علي قاعدة عالية فوق أغلي وأشرف بقعة من الأرض بمصر, وهي مدخل قناة السويس الشمالي ملتقي قارتي إفريقيا وآسيا, بوابة دخول مصر الشمالية وللمارين بأراضيها عبر قناة السويس, تمثال عملاق أقيم له في وضع يظهره منتصبا شامخا مرحبا بيديه بهؤلاء, وكأنه صاحب الأرض والقناة, وصاحب الإذن لمن يريد الدخول أو صاحب البيت الذي يرحب بالضيوف. وفرديناند ديليسبس هذا كان قنصلا لفرنسا بمصر ابان حكم الخديو سعيد, وقد نجح في الحصول علي موافقة هذا الخديوي لمنحه امتياز تنفيذ فكرة قديمة كانت من أيام الفراعنة وتجددت إيان الفتح الإسلامي لمصر, وهي شق قناة تربط بين البحرين الأبيض والأحمر, وعبقريته في أنه نجح في تحويل تلك الفكرة لحقيقة بالفعل.. ولكن تم له ذلك بفضل ما شمله فرمان الامتياز من حقه المطلق في استخدام المصريين كعمال سخرة كأداة رئيسية ووحيدة لتنفيذها, فلم يرحم دمهم وجهدهم وعرقهم بل وأرواحهم في عدة مرات, استخدمهم سخرة بكل ما تعنيه تلك الكلمة من معان, لحفر ممر مائي بطول186 كم وعمق أكثر من20 مترا, وعرض30 مترا في أضيق مكان به, لم يشفع لهم عنده هو وزبانيته طول ساعات حر الصيف أو برد أيام الشتاء, لم يعطهم أجورهم, لم يوفر لهم أبسط حقوقهم الانسانية من تحديد ساعات العمل والحصول علي أجر مقابل عملهم والعمل في بيئة إنسانية مناسبة وتوفير الرعاية الصحية والانسانية اللازمة.. إلخ, فرمان خديوي جائر أعطاه كل تلك الحقوق وأكثر منها باعتبار أن المصريين هم مجرد عنصر في قائمة ممتلكاته التي ورثها عن عائلته ضمن ميراثه لحكم مصر. إذن فقد كان من الطبيعي أن يمثل دائما هذا التمثال للمصريين رمزا حيا وشاهدا قائما علي أيام ذل وقهر وهوان وسخرة لأجدادهم لا تمحي بمرور السنين, لذلك فقد كانت أولي مهام عمليات المقاومة الشعبية الباسلة والتي تأججت نيرانها أثناء مقاومة العدوان الثلاثي الغاشم علي مصر عام1956 هو تدمير هذا الرمز الشاهد علي عصور سوداء من تاريخ مصر, بعمل بطولي فذ لاتزال ذكراه ناصعة في تاريخ كفاح هذا الشعب ودليلا لرفضه الاحتلال وما يمثله من معان, وبقيت قاعدته خالية دليلا وشاهدا علي ما كان يكنه المصريون لصاحبها من كره وأيضا شعور ورد فعل الشعب المصري حياله. ولكن نادت بعض الآراء هذه الأيام بعودة تمثال ديليسبس لمكانه الذي كان رابضا فوقه علي تلك البقعة الطاهرة من أرض مصر, وخاصة أنه ظل طوال تلك السنين راقدا علي أرض مخزن قناة السويس بالاسماعيلية, وذلك بدعوي أن ذلك ينعش السياحة بمصر ويزيد العمران بالمنطقة ويوجد فرص عمل للآلاف من شبابنا, لا أدري كيف؟ وهل أعدمنا وسيلة أخري لتحقيق هذا الهدف بهذا المكان الذي هو بحق أغلي وأروع مكان بالعالم, مكان فريد لا يوجد مثيل له في أي دولة بالعالم. رغم تهافت تلك المزاعم والحجج, فإن عودة هذا التمثال لما كان قائما عليه هي قضية أمن قومي لمصر كلها وليست شأنا محليا داخليا لمحافظة بورسعيد, لما يمثله هذا من عبث بتاريخ كفاح ونضال أبناء شعبنا العظيم ومبعث فخره, فوضع تمثال هذا الرجل يكرس كل معاني الذل والسخرة فوق نفوسنا وعلي مرأي ومسمع كل أبناء الوطن وزوارها أيضا, فمكانه بوابة مصر الشمالية ومدخلها بأكثر مما هو مدخل لقناة أسهم هو بوسائل السخرة في تنفيذ فكرتها, هل يمكن لنا أن نمحو معاناة أجدادنا وإذلالهم وتسخيرهم بكل تلك البساطة؟ وتمجيد جلادهم بوضع تمثاله فوق نفوسهم وعلي مرمي البصر الدائم للجميع.. مصريين وأجانب؟ هل نمحو قصص كفاح وتضحيات ودم أبناء مصر المقاومين للاحتلال الثلاثي حيث دمروا رمزه القائم لعهود الذل والهوان وأسقطوه من عرشه؟!, الأمم الحرة لا تبيع تاريخ كفاح أبنائها ومعني تضحياتهم بحياتهم ودمهم ولو بمقابل كل كنوز الدنيا وليس مقابل أماني وأحلام بانتعاش سياحي قد لا يأتي, لماذا يريد خبراء السياحة الأجانب أن ننسي كل ذلك وأن نتسامح ونرضخ ولا يريدون هم لأنفسهم أن يكفروا عما ارتكبوه من فظائع وجرائم ثابتة ضد الإنسانية ارتكبت في حق هذا الشعب الأبي وقت أن كانوا جاثمين علي أنفاسه؟.. إنها فترة بغيضة مظلمة يريدون لنا أن نعيشها دوما, غير عابئين بمشاعر وكرامة وعزة هذا الشعب, أنها قضية أكبر بكثير من مجرد تمثال يعود أو لا يعود لمكانه, أنها قضية بما تمثله من تهاون وتلاعب في معنويات ومقومات وقيم شعب مصر.. هي قضية أمن قومي بالدرجة الأولي... والبدائل لهذا التمثال وقاعدته الفارغة كثيرة.. رابط دائم :