جاءت استقالة المستشار المحترم محمد فؤاد جاد الله من مؤسسة رئاسة الجمهورية الأربعاء الماضي لتستدعي للذاكرة سابقاتها من استقالات لمستشارين ومساعدين لرئيس الجمهورية في مناسبات مختلفة ارتبطت في الغالب بأسباب قانونية أو لها علاقة بالقانون, أو بأحداث جرت وبدا فيها سوء تقدير واضح من كل القوي السياسية, ومن ذلك الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس محمد مرسي يوم12 نوفمبر الماضي, وماتلاه من أحداث قصر الاتحادية وأخيرا تظاهرة جمعة تطهير القضاء التي جرت قبل أسبوع وعجلت باستقالة المستشار جاد الله. هذه الاستقالات قدمها أصحابها للرأي العام بتبريرات مختلفة أبرزها غياب الرؤية في إدارة المرحلة الانتقالية وتغليب القوي السياسية لمصالحها الخاصة علي المصلحة الوطنية والاعتداء علي السلطة القضائية وغير ذلك من التبريرات التي أري أنها لم تكن هي الأسباب المباشرة والجوهرية لاستقالة أي منهم, فالاستقالات رغم أنها جاءت في سياقات تبدو منطقية إلا أنها تخبيئ وراءها أشياء مازالت خافية عنا, فلم يقل لنا من استقالوا ماهي الظروف الموضوعية للاستقالة, ولم تصارحنا مؤسسة الرئاسة حتي الآن بالأسباب الحقيقية لاستقالة كل هؤلاء, حتي تقطع الطريق علي كل من يدعي أن الفشل والتخبط هما السمة الغالبة في إدارة هذه المرحلة. والحقيقة أنه يمكننا أن نقرأ هذا المشهد الملتبس الذي كثرت فيه حالات القفز من مركب الرئاسة كالآتي: أولا: أن قرارات الرئيس التي كانت تهدف لتحقيق أهداف الثورة فعلا وأثارت غبار الاستقالات, صدرت دون دراسة كافية أو بصياغة غير دقيقة ودون قياس لردود فعل المعنيين بها وتهيئة كافية للرأي العام لتقبلها, وهو ماجعل بعض المستشارين والمساعدين يسرع بالاستقالة عندما رأي ردود الفعل, وبعضهم صرح بأنه لم يستشر أصلا في تلك القرارات ولم يعلم عنها شيئا ومنهم المستشار محمود مكي نائب رئيس الجمهورية السابق. ثانيا: أننا نعيش مرحلة انتقالية تختلف فيها الحسابات السياسية لكل شخص ولكل فصيل من آن لآخر وتطرأ فيها أحداث وتغيرات علي غير توقع من الجميع ولاتكون نتائجها واضحة بالدرجة الكافية, بما يجعل البعض يؤثر السلامة وينأي بنفسه مبكرا أو يقفز من المركب لينجو ظنا منه أن لحظات الغرق قد حانت, وهو ماحدث في أعقاب الإعلان الدستوري, وأحداث قصر الاتحادية, حيث استقال عدد من مستشاري ومساعدي الرئيس ممن كنا نظن أنهم من المقربين منه أو الراضين عن سياساته علي الأقل. ثالثا: عدم توافر فترة زمنية كافية لتطبيق المؤسسية الحقيقية والقواعد الشفافة في اختيار المعاونين والمستشارين والمساعدين, والاعتماد علي اختيارات كان أغلبها سياسيا فئويا ربما كان من الأسباب المعززة لظاهرة الاستقالات. رابعا: عدم وجود تجارب سابقة أو نمط محدد لفكرة المؤسسية في رئاسة مصر, وكذلك عدم وجود ترتيبات مسبقة وخطط محددة لهذا الأمر عند رئيس الجمهورية المنتخب وتياره السياسي, بحكم عدم انشغالهم في الأصل بقضية الرئاسة قبل ظهور أسباب دفعتهم دفعا لخوض هذا المعترك في وقت ضيق محدود, وكذلك استغراقهم الكامل في معركة انتخابات الرئاسة وعدم وجود وقت كاف للتفكير فيما بعد الانتخابات مما أفرز هذه الحالة من غياب الرؤية التي عبر عنها كثير من المستقيلين. خامسا: التلميحات والتصريحات التي تظهر بين آن وآخر بأن مؤسسة الرئاسة بصدد إعادة الهيكلة علي أسس جديدة في ضوء خبرات الشهور السابقة, ربما عزز نية البعض للاستقالة وحولها إلي واقع بعدما توفرت ظروف مواتية, مثل ماجري مع المستشار جاد الله الذي قدم استقالته عقب تظاهره العدالة التي نظمها الإسلاميون الجمعة قبل الماضية واشتهرت ب جمعة تطهير القضاء. وإلي أن يحين موعد معرفتنا للأسباب الحقيقية للاستقالات والقفز المبكر من مركب الرئاسة, والتي ستكون حتما جزءا من تاريخ مصر يوما ما, لابد أن نؤكد أن فكرة المؤسسية في الرئاسة هي فكرة غير مسبوقة في تاريخ مصر وتؤسس لديمقراطية حقيقية يصعب بعدها العودة إلي حكم الفرد كما كان في السابق, وهذا مايحسب للرئيس وتياره, ومهما كان حجم الأخطاء فإن التجربة سوف تصحح نفسها بنفسها وسوف نري مصر عما قريب دولة مؤسسات حقيقية, لكن الأمر يحتاج إلي مزيد من الصبر والأناة وتوسيع دائرة المشورة والتعاون الايجابي بين مختلف القوي السياسية, والحكمة الشديدة في اتخاذ القرارات, وهذا ما نأمله. [email protected] رابط دائم :