لم أصدق نفسي وأنا اقرا أن البرلمان البلجيكي, قد وافق باغلبية141 صوتا ضد صوتين اثنين فقط علي منع ارتداء النقاب, ليس في المصالح والمؤسسات الحكومية فحسب كما فعلت فرنسا , ولكن في الاماكن العامة كلها اي في الشوارع والمتنزهات والحدائق العامة والشواطئ والسوبر ماركت وغيرها من اماكن عامة. وانا لا اعلم ما السبب في هذا الاجماع الهائل علي منع النقاب وتجريمه, لتصل عقوبة ارتدائه الي السجن, هل بدأت أوربا في التخلي عن قيمها في الحرية والليبرالية والتسامح واحترام الحقوق الشخصية. ام انها تواصل حربها الصليبية العدوانية ضد الاسلام والمسلمين كما يري الارهابيون ودعاة الحرب الدينية عندنا ومع تلك الحرب تسعي الي طرد المسلمين من اوربا المهم انها مشكلة كبيرة, واتعجب كيف لم ينتبه دعاة الاسلام السياسي ومؤسساته الي تلك المشكلة ويكتفون ببيانات الاستنكار التي تهيل التراب علي الديمقراطية الغربية وتواصل تأجيج العداء بين المسلمين والعصر كله وفي القلب منه الحضارة الغربية بقيمها الانسانية والعلمانية وانا اظن بلا اي شك ان المشكلة تأتي من مصدرين اثنين لا ثالث لهما. الاول: هو التطرف في اوربا والتسمك بشكليات ومظاهر استفزازية وعدوانية للمجتمعات الاوربية والتعامل مع تلك المجتمعات بانتهازية منقطعة النظير. ولكن قبل ان استطرد في وصف ممارسات جماعاتية متطرفة في اوربا احب ان اقول ان الاوربيين ليسوا ضد الاديان وان اوربا قد مرت بفترات عصيبة من التعصب والاحتراب الديني في مطلع العصور الحديثة سالت بسببه الدماء انهارا وبلغت ضحاياه الآلاف, حتي وصلت الي صيغة علمانية تجعل الدين لله والوطن للجميع ومن ثم يحتفظ الانسان بايمانه الديني مصونا لا يمس ويجتهد الجميع وفق آليات ديمقراطية مقننة لوضع التشريعات والقوانين التي تحكم وتنظم شئون حياتهم ومعيشتهم ومجتمعاتهم, وتحترم مختلف اشكال التنوع الثقافي والديني والطائفي والعرقي وغيرها من اشكال التنوع والخصوصية, وقد عشت في أوربا بعض الوقت وعاش بعض اخوتي فيها ومازالوا, ولم اشعر بأن هناك ما يمنع الانسان من ان يقيم فروض دينه, فيقيم الصلاة لوقتها حتي ولو جماعة مع غيره من المسلمين اذا كانت نظم العمل تسمح, وان لم تكن ففي الرخص الدينية متسع, كما يستطيع ان يقيم صلاة الجمعة في جامع المدينة وقل ان تخلو كما اخبرنا رسولنا فإن الارض مسجدا وطهورا مدينة اوروبية من مسجد جامع, وان لم يكن ويستطيع الانسان يصوم وان يدفع زكاته لمن يريد وان يحج الي بيت الله الحرام بلا اي غضاضة او تعكير صفو. ويعلم الجميع ان المئات من اساتذتنا الاجلاء قد ابتعثوا الي اوربا وامريكا للحصول علي الماجستير والدكتوراة بل وبعض شيوخنا الورعين وبعض شيوخ الأزهر الشريف قد درسوا وعاشوا هناك اعواما طوالا وعادوا الي بلادهم موفوري العلم والثقافة وخاصة فرنسا اوربا لينفعوا بلادهم وقومهم, ولم يقل أحدهم أنه منع من أداء فروضه الدينية او اجبر علي فعل ما يغضب الله سبحانه وتعالي, ومن هنا فإن ما تقوم به الجماعات الإسلامية المتطرفة في اوروبا هو مجرد شكل من اشكال استعراض القوة والاستفزاز ولفت الانظار واثارة العداوة والبغضاء بين الشعوب والمجتمعات, وليس ادل علي ذلك من ان اكبر ثلاث قضايا اثير حولها الجدل في العامين الأخيرين هي قضايا ليست من فروض الدين ولا عمدة الاساسية التي لا يقوم الدين الابقيامها, وهي تحديدا قضية الحجاب والرموز الدينية ومنعها في الموسسات العامة في فرنسا, ويعلم الناس والمهتمون ان هناك عشرات الاجتهادات التي تري ان الحجاب ليس فرضا دينيا, وانه كان اقرارا لواقع اجتماعي انتهي بانتهاء ذلك الواقع وان عمر بن الخطاب قد منع الاماء من ارتداء الحجاب واعتمدت ثقافتنا المصرية ذلك الاجتهاد فخلعت امهاتنا واخواتنا الكبار الحجاب وبقوا علي إسلامهم السمح المتجدد, وكانت القضية الثانية قضية مآذن سويسرا ويعلم الناس كذلك ان المئذنة دخيلة تماما علي بناء المسجد بل انه ليس هناك اي تحديد لشكل وعمارة المسجد في الاسلام, وثالث تلك القضايا قضية النقاب الاخيرة ذلك النقاب الذي اختلف حوله الفقهاء اختلافا بينا ولم ينتشر في العالم الاسلامي الا مع نمو تيارات التطرف والارهاب في العقود الثلاثة الاخيرة وانظر بعد ذلك الي كثير من ممارسات الجماعات الاسلامية المتطرفة في اوربا, فستجد هناك من يصر علي شراء خروف الضحية في عيد الاضحي ثم يقوم بذبحه واسالة دمائه في الشارع وهو يعلم تمام العلم ان القانون هناك لا يبيح للانسان ان قوم بذبح عصفور, كما يعلم ان ذبح وانظر كذلك الي الخراف سنة يثاب من فعلها ولا يعاقب من تركها كما يعلمنا ديننا الحنيف الاجتهادات التي تفرض علي المسلم ان يكون عينا علي المجتمع الذي يعيش فيه ويكفل له الامن والكرامة, لصالح جماعته الاسلامية المتطرفة. وقد اخبرني من اثق به ان فتيات تلك الجماعات في المدارس ترتدي الحجاب, وبعدها يطالبن باعفائهن من دروس الموسيقي, ثم من الاشتراك في الانشطة الرياضية المشتركة, ثم يطالبن بتخصيص مصلي لهن في المدرسة, ثم يمتنعن عن دروس مقارنة الاديان او بعض دروس الاحياء, وهذا كله مما يثير غيرهن من المسيحيات او اليهوديات فيسعين لابراز هوياتهن الدينية اسوة بالمسلمات, وهكذا تتحول المدرسة الي مدرسة فئوية عنصرية متطرفة تتناقض مع فلسفة المجتمع الذي يقوم علي المواطنة والتسامح والعلمانية. ومن هنا يأتي العنصر الثاني المسئول عن تلك الازمات الدائمة التي يثيرها مسلمو أوروبا وهو غياب فقه عصري مستنير يلائم ظروف تلك المجتمعات التي تختلف شكلا ومضمونا وحضارة عن مجتمعات الجزيرة العربية زمن الرسالة وفي صدر الاسلام, فاذا كانت الفروض الدينية مصونة لا تمس, والكليات الخمس معتبرة ومحترمة, والضرورات تبيح المحظورات, فما الذي يمنع وجود اجتهادات فقهية تسمح للمسلمين في أوروبا بالعيش مع مواطنيهم, والمساهمة معهم في صنع الحضارة والتقدم واحترام قيم المجتمع وقوانينه وحرياته, وقد صدع البعض رءوسنا بمقولات عن فقه الأولويات وفقه الضرورة, وعندما يجد الجد لا تجد عندهم الا التطرف البغيض والاستعلاء المقيت وإثارة العداوة والبغضاء بين الناس.. [email protected]