مازالت نظرية المؤامرة تسيطر علي ذهنية كثيرين من المهمومين بالشأن العام, وكما تملك الغرب ما يعرف بالإسلاموفوبيا, خاصة بعد تفجيرات11 سبتمبر2001 و يبدو أن المقابل لها عندنا هو ال' غربوفوبيا', إن جاز التعبير, فكلما اقترب أحد من الثقافة السائدة, وهي ما هي من حيث الهشاشة والعشوائية, خرج من يصرخ أنها مؤامرة غربية لتقويض ثقافتنا وموروثاتنا وثوابتنا, فتغل يد صاحب القرار عن إكمال مشروعه التنويري الحداثي, خوفا من ردة الفعل المتوقعة والمفتعلة, أو في احسن الأحوال المستغلة للأجواء المحتقنة تحت ضغط التراجعات الثقافية والاقتصادية والمجتمعية, مدعومة بموروث الشك تجاه كل ما هو جديد ومستحدث والذي هو عند البعض ابتداع وضلالة. شئ من هذا حدث عندما طرحت فكرة استحداث منهج تعليمي يضم المشترك القيمي والاخلاقي ومن ثم الإنساني عند المسيحية والإسلام يدرس لكل التلاميذ في مراحل التعليم قبل الجامعي, لخلق ارضية فكرية مشتركة تكرس ثقافة القبول المتبادل عند كليهما للآخر, وتفعل ثقافة الاندماج الوطني وتحول مبدأ المواطنة إلي واقع معيش. وقد بادر معالي الدكتور أحمد زكي بدر وزير التعليم بترتيب لقاءات مع اصحاب الفضيلة من القيادات الإسلامية, وطلب استطلاع رأي اصحاب القداسة من القيادات المسيحية, وصولا لتطوير موضوعي يتفق ودور منظومة التعليم في إعداد النشء ليصيروا مواطنين صالحين في بنيان وطن قوي متسلح بالعلم والتنوير ورغم أن الأمر لم يزل في طور استطلاع الآراء والقراءة الأولية التي بدأت مع أهل الاختصاص وبالضرورة ستستمر مع كل الأطياف ذات الصلة, إلا أن الأصوات المتربصة بنسق الحداثة والتنوير استبقت ما سوف تسفر عنه استطلاعات الرأي ومشاورات الخبراء والمختصين, في ضربة استباقية تصرخ بأن الغرض هو تحقيق اجندة غربية لتقويض ثوابتنا وموروثنا وحضارتنا, وهو ما نفاه بشكل قاطع فضيلة الدكتور علي جمعة مفتي مصر المستنير. والمعروف بمواقفه الصارمة والحادة تجاه كل ما يمس العقائد والثوابت الدينية. بحكم علمه وبحكم موقعه. وهو أمر يستوجب التوقف أمامه وتحليله, لأن من يروج للاستهداف من حيث لا يدري يقول بأن الإيمان ومن ثم الدين صارا علي المحك, وأنهما قابلان للاهتزاز أو الاندثار, وهو أمر غير مقبول وغير منطقي بل ويكشف عن اهتزاز ثقة من يروجون له في ايمانهم وعقيدتهم وهو جرم لابد أن يحاسبوا عليه, مثلهم في هذا مثل من يخشون علي الدين من فيلم أو كتاب أو ما شابه, فيما يحتفظ لنا التاريخ بالعديد من الموجات الهجومية الضارية التي تكسرت علي صخرة الدين والإيمان وبقي الدين وذهبت الموجات ادراج الرياح. ولعلنا ننتبه قبل أن يستغرقنا الجدل بين التأييد والمعارضة, إلي تحديد مهمة ودور منظومة التعليم خاصة ما قبل الجامعي, هل مطلوب منها أن تخرج لنا فقيها أو لاهوتيا؟, وهل دورها أن تربي النشء دينيا؟ إذا كان ذلك كذلك فما هو دور البيت والأسرة وما هو دور المؤسسات الدينية؟, في ظني أن المهمة الأولي للمدرسة بحسبانها دار علم أن تقوم بتعليم النشء والصبية والشباب المبكر كيفية امتلاك طريقة ومنهج التفكير العلمي والتدرب علي إعمال العقل واكتشاف ميوله العلمية لتوجيهها توجيها صحيحا في مرحلة التعليم الجامعي, ليمثل اضافة حقيقية في منظومة التنمية, علي خلفية منظومة قيم اخلاقية تتسق والقيم الإنسانية والتي هي بالضرورة تنبع وتتماس وتتشابك ايجابا مع معطيات الأديان السماوية. وبشيء من التروي نكتشف أن الحملة علي دعوة التحديث تحمل في طياتها امتدادا طبيعيا لثقافة التطرف إذ تحمل حصة الدين بعيدا عن القيمة الدينية لدروسها والتي نقدرها ونعظمها لعقل الطفل خاصة في مرحلة التعليم الأساسي أول رسالة للفرز والتمايز والاختلاف, فيما تحمل حصة القيم الدينية المشتركة رسالة واضحة تكرس التآخي والقبول المشترك علي قاعدة التساوي الإنساني. ولا استطيع أن ابعد عن ذهني محاولة مؤسستي الأسرة والدين القاء الكرة في ملعب التعليم, بينما مهمة التلقين الديني الصحيح تولد في حضن الأم ثم الأب بحسب التدرج العمري للطفل ثم البيئة الأسرية القويمة والسوية, وبعدها يأتي دور المؤسسة الدينية, وهو دور لو يعلمون ثقيل, ولعل الإصرار علي ترك مهمة تعليم الدين علي عاتق المدرسة يكشف لنا من جانب تضخيم ما يمكن أن تنتجه حصة الدين, عند كل من المسلمين والمسيحيين, وهو علي ارض الواقع غير مجد ولا ينتج غير تكريس ثقافة الفرز والاغتراب في الفصل الواحد, ويكشف من جانب آخر عن قصور في فهم مهمة الأسرة الأولي كمفرخة وحاضنة للقيم الدينية ليس تلقينا فقط بل وقدوة معيشة يتحسسها الطفل ويلتقطها من ذويه بشكل متواتر ومستمر وبغير عناء أو مباشرة. فيما يكشف من جانب ثالث عن مزاحمة الاهتمامات السياسية والصراعات الضيقة للمؤسسات الدينية الي الدرجة التي تشغلها عن مهمة التعليم والتلقين والإرشاد الديني عند نفر غير قليل من رموزها. هذه هي المشكلة في حقيقتها كما اتصورها وفقا لمعطيات الواقع الذي نعيشه, حالة خلط الأوراق وغياب الإدراك الصحيح لطبيعة ومهمة مؤسسات التنشئة, الأسرة والمدرسة والمؤسسة الدينية, ورغبة كل منها في ان تلعب دورا غير دورها المنوط بها, فيما تتوه مهامها الأساسية, ثم نسأل ماذا حدث لمصر, ولماذا وجدت الفوضي مستقرا لها بيننا؟ إن جدلية الإخلاق والدين في المنظومة التعليمية جدلية عبثية, فمن المفترض أن منظومة قيم ومن ثم أخلاق أي مجتمع متدين هي نتاج منظومته الدينية في صحيحها, وعليه يصبح توجه استحداث تدريس المشترك القيمي بين الاديان مطلبا ملحا ووجوبيا ونحن نسعي لرأب الصدع المجتمعي الذي احدثه وعمقه التطرف والإرهاب الفكري وفزاعة استهداف الدين. لعلنا ننتبه قبل أن يستغرقنا الجدل بين التأييد والمعارضة, إلي تحديد مهمة ودور منظومة التعليم خاصة ما قبل الجامعي [email protected]