البعض كما قلنا يريدها فوضي والبعض الآخر يقاتل معركته الأخيرة للحفاظ علي مافقده من مكاسب ومصالح كان يحققها في ظل النظام الفاسد, والمراقب يمكن أن يلحظ آليات وأدوات للتضليل لاعلاقة لها بالإعلام الاحترافي ومنها الإعلام المصري فقد اتزانه بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير علي مستوي المؤسسية والأداء معا, ذلك أن منظومة الفساد والاستبداد التي كانت تحكم البلاد لم تسمح للمؤسسات بتنظيم شئونها بما يسمح بارتقائها اقتصاديا ومهنيا, وكانت تعزز في الوقت ذاته مسببات الانهيار المهني والأخلاقي لكثير من العاملين في الإعلام بكل مكوناته, فاستخدمت قطاعات منهم أسوأ استخدام بالترويج لسياساتها وتلميع صورتها, كما سمحت لقطاع آخر باحتراف مهنة الجاسوسية داخل المؤسسات الإعلامية وخارجها, بالتعاون مع أجهزة أمنية كانت تسهل لهؤلاء مهامهم, وتحفزهم علي أعمالهم القذرة بمكافآت وسفريات وفرص تعيين وترق في المناصب لم تتح لزملائهم الشرفاء. التحالفات المشبوهة بين الفساد والإعلام سابقا أورثتنا هذه الحالة من الضبابية الإعلامية, فلاتري فضائية أو صحيفة تعمل الآن بشكل احترافي, لسبب بسيط هو أن أجيال الإعلاميين تربت في ظل النظام السابق إما علي الخوف من الجهر بالحقائق المجردة أو علي الكذب بتزييف هذه الحقائق وتلوينها, والنتيجة هي مانراه من ضعف في الأداء وعدم وضوح الرؤية, تستوي في ذلك جميع الوسائل بلا استثناء. كان المفترض أن سقف الحرية الذي أتيح للإعلاميين بعد الثورة سوف يقفز بأدائهم إلي أعلي المستويات ولكنه كشف عورات الجميع وأزال الغطاء عن حالة من اللاوعي واللامسئولية التي بدت في تركيز البعض علي الفرقعات الإعلامية علي حساب الأمن القومي, أو الشهرة علي حساب الموضوعية, وتحول البعض إلي أبواق لأحزاب سياسية أو جماعات مصالح وانتهي بنا المشهد الآن إلي تراشق إعلامي رهيب يستخدم فيه الكذب والتضليل وقلب الحقائق علي أوسع نطاق. ونظرا لافتقاد الاستراتيجيات وغياب بوصلة الرشادة الإعلامية نلحظ بوضوح أن الإعلام المصري, قوميا كان أم خاصا, غارق إلي أذنيه الآن في مستنقع توريط البلد اقتصاديا وسياسيا, بنقل صور تنفر المستثمر والسائح من القدوم إلي مصر وتوحي للمتابع العادي في الخارج أن مصر تحولت إلي دولة عصابات وأن الفوضي الأمنية تطيح بكل شيء فيها, مع ارتكاب ممارسات فجة تعطل أي تطور باستخدام كل الوسائل الممكنة في تشويه صورة الآخر وتعطيل أي إنجازات تحقق الانتقال السريع إلي أهداف الثورة, بل والاستماتة في تعطيل السلطة القائمة وإعاقتها عن اتخاذ قرارات للصالح العام. البعض كما قلنا يريدها فوضي والبعض الآخر يقاتل معركته الأخيرة للحفاظ علي مافقده من مكاسب ومصالح كان يحققها في ظل النظام الفاسد, والمراقب يمكن أن يلحظ آليات وأدوات للتضليل لاعلاقة لها بالإعلام الاحترافي ومنها: الانتقائية: في المحتوي والضيوف, بحيث تختار موضوعات بعينها وضيوفا محددين دون غيرهم بهدف تشويه صورة الآخر والانتقام منه دون وجود حد أدني من القواعد الموضوعية والمهنية. الإقصاء: بمحاولة تدمير الآخر ونزعه من المشهد بكل السبل مع الانحياز الأعمي للإيديولوجيات والقناعات الفكرية والسياسية دون النظر إلي الصالح العام. التهكم والسخرية: باصطياد الكلمات ولغة الجسد والسقطات لأي شخص وتحويلها إلي مادة مسفة للتهكم والتشفي وهو مايعني انحدار القيمة الموضوعية والأخلاقية للإعلام. توظيف الأغاني والفن الهابط والإيماءات البذيئة في السخرية من الشخصيات العامة والحط من شأنها. التطويع: بإسناد كل الكوارث ومنها حتي الخلافات الشخصية والتغيرات المناخية لشخص مسئول أو للحكومة مثلا, فإذا ألقي شخص مثلا قمامة في الطريق يقال إن الرئيس هو السبب وإذا ماتنبأت الأرصاد الجوية بموجة برد أو رياح عاتية تكون الحكومة هي السبب, وهكذا يتم تطويع أي حادثة أو معلومة وتلوينها سياسيا للطعن في الآخر. المزايدة: بتحميل أي أمر فوق مايحتمل وتأويله بما يوحي للجمهور أن السبب في الحادثة أو الموقف هو تقصير فلان أو الميل الشخصي لعلان الذي يرغب في تحقيق مصالح خاصة, وهي حالة تلخص سوء الظن الذي أصبح جزءا من المكون النفسي للمصريين جميعا فضلا عن الإعلاميين. إن القاعدة المهنية الإصيلة في إعلام الحقائق تقوم علي نقل الخبر بكل شفافية ودون انحياز, بعد التحقق من صحته من أكثر من مصدر, ترتبط بذلك فكرة المعلوماتية التي هي أساس المصداقية, ونسبة المعلومات أو الكلمات إلي مصادرها الصحيحة بكل وضوح, في هذه الحالة فقط ستختفي مقدمات مألوفة حاليا لأخبار مشكوك في صحتها من نوع صرح مصدر مسؤل, قال مصدر وثيق الصلة, علم مندوب, أكدت مصادر.. إلي آخر هذه المنظومة التي تربت عليها أجيال من الإعلاميين, ونأمل أن ينتبه أبناء المهنة وصانعو القرار لإحياء القيم الصحيحة والإسهام في صناعة مستقبل ناهض لصالح الجميع.