يحيى حقى في سابقة لاتتكرر كثيرا, تذكرت لجنة القصة بالمجلس الأعلي للثقافة أستاذنا الناقد الراحل د.علي الراعي الذي غادرنا قبل أحد عشر عاما, وعقدت له ندوة في الاسبوع الماضي, استمرت علي مدي يومين, وناقشت مختلف اسهامات الراحل الكبير ,وشارك فيها عدد كبير من النقاد والباحثين. بطبيعة الحال ينبغي توجيه التحية للجنة علي مبادرتها بإقامة الندوة, وللمجلس أيضا الذي بادر بإعادة طبع الأعمال الكاملة للراحل حسبما أعلن الأمين العام د. عماد أبو غازي وسوف تصدر في نهاية العام الحالي كما ورد في الكلمة الافتتاحية التي ألقاها في أول أيام ندوة: علي الراعي..الفكر والفرجة والحقيقة أن أستاذي واستاذ أجيال وأجيال من الكتاب والفنانين علي الراعي كان طرازا فريدا من مفكرينا, وبغيابه قبل أحد عشر عاما, بدأت مرحلة كاملة من تاريخنا النقدي والفكري في الغياب, بل يكاد يكون آخر الذين عاصروا حلقات متصلة من حياتنا الفنية والثقافية منذ خمسينيات القرن الماضي وحتي رحيله, أي أن الرجل أمضي نصف قرن مشتغلا بتأصيل وتنظير المسرح والرواية والنقد والعمل الفكري المتواصل. فبيل رحيله كان قد بدأ في الانسحاب مختارا بعدما شاهد تداعي وانسكار القيم التي كان يدافع عنها, مثل الجدية والنبل والاستقلال الفكري والتأصيل والمعاني السابقة ليست انشائية, بل هي جوهر ذلك الجيل من المفكرين الذين شغلوا بتحويل المعاني العامة الي عمل متواصل, وكدح لا يعرف أنصاف الحلول والحال ان الراعي ظل واضحا أقصي الوضوح في دفاعه الشرس والنبيل عن القيم التي نذر حياته من أجلها. وكان الرجل أيضا واحدا ممن اتيحت لهم الفرصة لتطبيق تلك المعاني في مؤسسات الدولة الرسمية لسنوات, وخاض تجربة في العمل العام حتي غادر باختياره مقعده في الوظيفة المرموقة. علي أي حال كان انجاز الراعي الاساسي في المسرح منذ شاهد من شرفة حجرته في مدينة الاسماعيلية في العشرينات من القرن الماضي ملصقا عن فيلم ليوسف وهبي مأخوذا عن مسرحية شهيرة له. كانت الالوان الصارخة للملصق هي ماجذبت انتباهه ولم يهدأ كما يروي في كتابه هموم المسرح وهمومي حتي دبر ثمن تذكرة السينما وشاهد الفيلم. وعرف طريقه بعد ذلك, حين انتقل الي القاهرة ليلتحق بالتعليم الثانوي, لمشاهدة المسرح بل انه ترجم في الفترة نفسها احدي المسرحيات التعليمية. التحق الراعي بكلية الآداب وتخرج في اواخر الاربعينيات, ثم عمل مذيعا ومخرجا في الاذاعة المصرية, الي أن جاءته منحة من جامعة برمنجهام في انجلترا لدراسة المسرح, وكان البروفيسور آلا ردايس نيكولا من بين من ناقشوه عندما اختار الراعي برناردشو ليعد أطروحته للدكتوراه عنه. وحين عاد من بعثته كانت الثورة قد عهدت لفتحي رضوان المنتمي للحزب الوطني( القديم) بوزارة الارشاد القومي, وبدوره عهد فتحي رضوان الي يحيي حقي باستحداث مصلحة مستقلة للفنون, يعاونه طاقم من المثقفين والمبدعين مثل نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير وغيرهما. في مصلحة الفنون بدأت مرحلة جديدة من حياة الراعي ومن حياة المجتمع المصري والمؤسسة الثقافية الرسمية: كان حكام يوليو يبدأون أولي خطواتهم في الحكم وفي تأسيس دولتهم, كما كانوا يدركون دور الثقافة في صياغة المستقبل. والحقيقة أن مصلحة الفنون لعبت دورا بالغ الأهمية, بل ومهدت لإنشاء وزارة مستقلة مختصة بالثقافة. من جانبه, أسهم الراعي في انشاء أول فرقة للرقص الشعبي. كان الزمن هو زمن الشعب والفولكور والبحث عن الجذور والتأصيل, كما أسهم في انشاء عدد من الفرق الموسيقية, بل وتولي رئاسة مؤسسة المسرح حوالي سبع سنوات بدءا من عام1957. في مؤسسة المسرح بدأت أول صدامات الراعي مع المؤسسة, وعاني من تدخلات الرقابة كما يروي في الكتاب السابق الاشارة له خصوصا في مسرحية الفتي مهران لعبد الرحمن الشرقاوي. ومع ذلك واصل جهوده لينشيء مسرح العرائس وفرقة الفنون الشعبية وعددا آخر من فرق المسرح المختلفة. أغلب الظن أن الرجل أدرك علي نحو ما أن هناك سقفا لكل شيء, وأن الدولة لها مصالحها وأجهزتها الساهرة علي هذه المصالح, فقدم استقالته ليعود الي عمله الفكري الذي كان قد أجله بعد صدور كتابيه مسرح برناردشو ودراسات في الرواية المصرية. وفي السبعينيات تلقي دعوة من الكويت لزيارة معهد المسرح الذي كان زكي طليمات قد أسسه, لكن زيارته امتدت, وقضي تسع سنوات متصلة, قام خلالها بتطوير المعهد وتحويله من معهد مماثل للمرحلة الثانوية, إلي معهد عال. وبجهوده مع سعد أردش وكرم مطاوع أقيم أول مؤتمر للمسرح العربي. ولعل أحد أهم انجازات الراعي كتبه الثلاثة المتتالية التي أصل فيها لهوية مسرح عربي, وهي الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري وفنون الكوميديا من خيال الظل إلي نجيب الريحاني ومسرح الدم والدموع في هذه الثلاثية تحديدا تتجسد رؤية الراعي وعمله النقدي التأصيلي, فقد عاد إلي الأشكال والصياغات والأساليب الأولي للمسرح في مصر علي نحو غير مسبوق, وأعاد اكتشاف البدايات. أما جداريته المسرح في الوطن العربي فتعد أيضا أحد أهم الوثائق التاريخية للمسرح في المشرق والمغرب العربيين. ومن بين مآثر الرجل واسهاماته البارزة, عمله بعد عودته من الكويت ومقالاته التي كان ينشرها اسبوعيا في روز اليوسف, ويتابع من خلالها حياتنا المسرحية والفنية, قبل أن ينتقل إلي مجلة المصور في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي, حيث اكتشف واحتفي بعدد كبير من الكتاب الذين كانوا ينشرون أعمالهم الاولي في القصة والرواية. وكان الراعي أحد النقاد النادرين الذين لا يهتمون بالكاتب بل بالنص والنص وحده. بالطبع قد يبدو هذا أمرا مفروغا منه, أي أن النص هو الذي يقدم الكاتب وليس العكس, ولكن في عالم ادارة الأعمال والمصالح المتبادلة والمكاسب الرخيصة, كان الراعي نسيجا نادرا وسط كل هذا. بعد ذلك أصدر جدارية أخري هي الرواية في الوطن العربي, وتضم مسحا شاملا لأكثر من سبعين رواية عربية من كل الاقطار قدمها بمدخل تحت عنوان المجد للرواية العربية, لفت فيها الانتباه إلي الازدهار الذي شهدته الرواية العربية, والدور الذي بدأت تلعبه في حياتنا المعاصرة. قبل رحيله انضم إلي الأهرام كاتبا متفرغا يكتب مقاله الاسبوعي ويتابع من خلاله الأعمال الابداعية الجديدة ويقدمها بدأب واصرار وبلغة تتسم بالوضوح الناصع, فقد كان مدركا للدور الذي تلعبه الصحافة لدي القاريء العادي. ثم قدم شهادته الأخيرة هموم المسرح وهمومي قبل أن يبدأ انسحابه المنظم من الحياة العامة واعتكافه الاختياري واعتذاره عن كل الدعوات. هذا هو علي الراعي: واحد من آخر الحرس القديم, أدرك حجم الزيف الذي يحيط بحياتنا الثقافية, خصوصا بعد أن تولي لمرة واحدة رئاسة مهرجان المسرح التجريبي وعرف الي أي مدي من الانحدار وصلنا