عند توليه وزارة الثقافة قبل ما يقرب من ثلاثة وعشرين عاما, اعلن الفنان فاروق حسني انه سيضع نشر التنوير ومحاربة الظلام والجهل علي رأس قائمة أولويات الوزارة, وأنه سيجري تسخير امكاناته لمحاربة قوي الظلام المنتشرة في مصر... حيث جاء توليه للوزارة في تلك الفترة التي ارتفع فيها مد جماعات الاسلام السياسي والتكفير التي مارست العديد من أعمال العنف ضد المدنيين, وضد الدولة بدعوي الخروج عن صحيح الاسلام. وبعد ما يقرب من خمسة وعشرين عاما من تضافر وزارتي الإعلام والثقافة لنشر التنوير, ومحاربة الظلام مازالت المحاكم المصرية تشهد رفع دعوات من عدد من المحتسبين الجدد مطالبين بمصادرة الكتب الصادرة عن وزارة الثقافة بدعوي الاساءة للاديان ولقيم المجتمع, وأحدث هذه الدعاوي تقدم به مجموعة تدعي محامين بلا قيود طالبت بسحب كتاب الف ليلة وليلة الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بجزءيه, وتقدموا بها ببلاغ للنائب العام ضد كل من د. أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة والشاعر سعد عبد الرحمن رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية التابع لها إدارة النشر بالهيئة, والكاتب الكبير جمال الغيطاني رئيس تحرير سلسلة الذخائر التي صدر عنها كتاب الف ليلة وليلة بجزيئه, وطالبوا في هذا البلاغ بمحاسبتهم وفقا للمادة178 من قانون العقوبات المصري التي تعاقب بالحبس لمدة سنتين والغرامة كل من ينشر مطبوعات أو صورا خادشة للحياء العام فضلا عن مصادرة الكتاب الذي صدر في جزءين واعتباره دليلا ضدهم. فالي أي مدي نجحت وزارتا الثقافة والاعلام في تحقيق الهدف الذي اعلنتا عن تسخير امكاناتهما من أجله بعد مرور هذه الأعوام؟ الأهرام المسائي طرح السؤال علي عدد من المبدعين في التقرير التالي, فكانت هذه هي آراءهم. يقول الكاتب إبراهيم عبد المجيد: لا أري أن وزارة الثقافة تحديدا فشلت في أداء الدور المناط بها, فالسؤال الواجب توجيهه في هذا الصدد هو لماذا لم تنجح وزارة الثقافة رغم جهودها الكبيرة في القضاء علي الفكر الظلامي الهادف لمصادرة حرية التعبير والنشر؟ والاجابة هي أن وزارة الثقافة وزارة محاصرة من قبل متحجري الفكر المطالبين بالمصادرة من جانب, ومن قبل وزارة الاعلام التي تقدم برامج ثقافية قليلة وجامدة, وغير قادرة علي جذب الجمهور وترويج حب المعرفة لديه إلي جانب وزارة التعليم التي تقف بقوة في وجه أي محاولة لجعل مناهجها داعمة لفكرة التنوير والتفكير النقدي البناء. ويري إبراهيم عبد المجيد أن أغلب هذه الدعاوي القضائية يهدف المتقدمون بها في الاساس إلي حصد الشهرة ويتساءل: أين هم من الغلاء, ومن تراجع مستوي العلاج في المستشفيات, أين هم من القضايا الحقيقية التي تمس الناس, ولماذا لا يتحكون قضائيا وقانونيا ضد الجشع والاهمال؟. ولا يبدي صاحب بيت الياسمين قلقا من الدعوي المرفوعة ضد الف ليلة وليلة والمطالبة بمصادرتها مشيرا إلي وجود محاولات عديدة لمصادرتها من قبل لم تسفر عن شيء, حيث ينتصر القضاء دوما للابداع, لوعي القائمين عليه بأن مواقع الانترنت تحوي من البذاءات ما يتجاوز المكتوب في الف ليلة وليلة, وأنها تقدم المضمون الجنسي في قالب من السخرية والحكي الشعبي لا بهدف إثارة الغرائز, مضيفا أن مثل هؤلاء المحتسبين الجدد لن يعلنوا رضاهم عن وزارة الثقافة والمؤسسات المدنية الهادفة لنشر القراءة والمعرفة إلا إذا وجهت جهودها لطبع كتب السحر والشعوذة. أما الروائي أحمد أبو خنيجر فيري بدوره أن الدور الذي تلعبه وزارة الثقافة لا يكفي وحده, ويتفق مع إبراهيم عبد المجيد بأن نشر التنوير للقضاء علي هذا الفكر من منابعه يجب أن يبدأ من المؤسسات التعليمية علي اختلاف توجهاتها ويروي للأهرام المسائي موقفا شهده من أسابيع بعودة طفل من المدرسة ليعلن لذويه أن الاحتفال بشم النسيم حرام ويتساءل لماذا نترك المدارس خارج المعادلة؟ من القائم علي تعليم الاطفال؟ وأي أفكار يضع في رءوسهم؟. ويؤكد ابو خنيجر أن ترك التعليم والاعلام خارج المعادلة المطلوبة لنشر حرية الفكر والتعبير في المجتمع يجعل منها معادلة مختلة ومنقوصة, مضيفا ان المقاومة الشديدة لتعليم الاطفال بشكل يبني لديهم العقل النقدي القادر علي التفكير في العالم واستقباله بشكل مختلف دون تعصب هو السبب الرئيسي في انتشار هذا الفكر. ويري أن موقف د. أحمد مجاهد رئيس هيئة قصور الثقافة بإعلانه اعادة طبع الكتاب هو الموقف السليم تجاه هذه التهديدات فالف ليلة وليلة ليست مجرد كتاب, بل هي منبع من منابع الآداب الإنسانية لا يمكن أن يصادره حفنة ممن يحيون خارج التاريخ, ويقول إن ما يحدث مؤشر لحالة من التدهور العام, حيث يترصد الكل بالكل وصارت المزايدة هي اسم اللعبة نظرا لان المجتمع فقد الثقة بنفسه. أما د. مجدي الشافعي فله راي خاص في الدعوي المرفوعة ضد الف ليلة وليلة, فالمادة القانونية التي يستند إليها هؤلاء المحامون لمصادرة الف ليلة وليلة ومحاسبة المسئولين عن طبعها بهيئة قصور الثقافة هي نفس المادة التي استند إليها أحد المحتسبين بالتعاون مع جهاز شرطة الآداب لمصادرة روايته مترو أول رواية مصرية مصورة ومعاقبته بدفع غرامة مالية بلغت خمسة الآف جنيه هووناشره محمد الشرقاوي. ويقول الشافعي: ألف ليلة وليلة هي نتاج إبداع إنساني شعبي غير منقح تشهد بأن الإنسان بفطرته ينحاز للفن, وأن ما يحدث الآن من محاربة للإبداع وحريته هو انحراف في الفطرة الإنسانية, فالف ليلة وليلة جمعت وكتبت وظلت تتطور ضمن منظومة الدولة الإسلامية, ولم تلق محاربة من أحد مما يشير إلي أننا نمر بردة اجتماعية وثقافية واضحة. أن من يقوم برفع القضية ضد الف ليلة وليلة الآن هم مجموعة من المحامين أي من يناط بهم الدفاع عن الحرية بكل أشكالها وصورها فإن كان المجتمع قد تحول إلي أن يحارب حاملو مشاعل الحرية تلك الفكرة النبيلة, فماذا ننتظر لنتأكد أن هناك خللا بحاجة للتدخل الفوري والعلاج. ويكمل الشافعي قائلا: هذا شاهد علي ان منظومتي التعليم والثقافة في مصر تمران بمشكلة, وبحاجة إلي مراجعة لأدائهما, فأمثال هؤلاء المحامين بحاجة إلي اعادة تأهيل, المجتمع العربي والمصري منذ القدم ينتج بفطرته اشكالا فنية وابداعية تتجاوز أفكار النخبة, فالقضاء في مصر أحيانا ما ينتصر لمثل هذه القوي الرجعية, ولابد أن يتنبه القضاء إلي أن هناك اتجاهات عامة عليه إلا يسايرها, وأن يعود إلي مواقفه المشرفة, حيث انتصر للابداع والحرية في ثمانينيات القرن الماضي عندما رفعت دعوي مطابقة للمرفوعة الآن ضد الف ليلة وليلة, فالقضاء نخبة ثقافية قبل أن يكون نخبة اجتماعية, وعليه ألا ينساق خلف هذه الاتجاهات ليستعيد صورته النزيهة المشرفة.