قالوا في المثل: زامر الحي لا يطرب وهو من الأمثال العربية المعبرة عن خلاصة التجربة الإنسانية في استهانة الناس بالمألوف وإن كان جميلا, وقد يستهويهم الغريب عن البيئة وإن كان قبيحا وأعتقد أن هذا المثل يترجم واقعنا العربي بشكل عام وواقعنا المصري بصفة خاصة, فقد مرت بنا سنوات ونحن نستهين بكل إنتاج محلي ونقبل علي كل بضاعة مستوردة, وكم سمعنا من يفاخر بأنه اشتري ملابس الوليد الجديد من خارج الحدود. وقد وصل الأمر بنا إلي أن نستورد من الصين إبرة الخياطة و فانوس رمضان وخلت أسواقنا من الانتاج المحلي إلا قليلا مما يأكلون. ويبدو والله أعلم ان المحلية صارت عقدتنا في كل شيء, وربما نشأ فينا جيل غرست فيه السياسة الفاسدة بثقافتها الملوثة شعورا بالنفور من معطيات البيئة المصرية واحتقارها في كثير من الأحيان فنسمع بين الحين والآخر من يدير لسانه برطانه أجنبية في لغة التخاطب اليومية من غير ضرورة سوي الإفلات من عار اللهجة المحلية وإقناع الآخرين بأنه عبر حدود التخلف إلي عالم القبعات, وقد يطالعك علي واجهة الشركات والمحلات ما يثير السخرية والضحك من عناوين أجنبية كتبت بحروف عربية, أو عناوين عربية كتبت بحروف أجنبية. ولا تسأل عن الأسباب فقد تسمع ألف جواب ولكن فتش عن الدوافع السياسية والاجتماعية والنفسية لتدرك أنها نفوس ضاقت بالزمان والمكان والناس ففقدت الإحساس ببلادها وفتش عن العقدة الموروثة من زمن الاحتلال إذ خرج من بلادنا وخلف في نفوس بعضنا إحساسا بأننا لا نجيد شيئا ولا نصلح حتي لقيادة أنفسنا في مباراة رياضية مهمة, وفقدنا الثقة في اختيار حكامنا وفيهم من ذوي الكفاءات من شهد له العالم, كما فقدنا ثقتنا في أنفسنا ونحن نختار حاكما سياسيا يدير شئون البلاد. وربما تراكم هذا الإحساس بالشك في قدرته خلال عهود سياسية طويلة لم تعرف فيها البلاد حاكما مصريا فلما آل حكم البلاد إلي أبنائها لأول مرة بعد ثورة يوليو52 لم يجد الشعب المصري غضاضة أو غرابة في آن يكون عبد الناصر هو المتفرد بالقرار دون معارضة. وفي نظام لا يعترف بالتعددية في حكم بلد يريد أن يخرج من مرحلة الثورة ومطباتها إلي مرحلة البناء والإنجاز. وأكاد أجزم بما قد يخالفني فيه غيري بان سلبيات عبد الناصر وإيجابياته ترجع إلي سبب واحد وهو أحادية القرار فإذا كانت إخفاقاته سببها القرار الفردي فإن إنجازاته العظيمة ترجع إلي السبب نفسه, ولم يغب عن ذهن عبد الناصر ورفاقه أن المصريين قبل الثورة بآلاف السنين لم يكن لهم رأي في اختيار الحاكم ولم يجلس علي عرش البلاد مصري واحد ولهذا قل من المصريين بعد عبد الناصر من يهتم بعودة البلاد. إلي مستعمر الأمس في ظل نظام فاسد يتلقي الأوامر من البيت الأبيض ليكون دائما في خدمة اسرائيل حتي صارت مصر علي مرآي ومسمع من الجميع مقاطعة أمريكية يديرها الرئيس الأمريكي أكثر من أربعين عاما. وحتي بعد الانتصار في أكتوبر وبعد أن فقدنا العديد من ضباطنا وجنودنا كانت أمريكا في النهاية هي صاحبة القرار الذي حقق لإسرائيل من المكاسب والخروج من الورطة ما لم يحققه الجيش المصري المنتصر. وصفق الشعب المصري لهذا القرار كما صفق قديما لمليكته كليوباترا هاتفا بانتصارها وجيشها مهزوم في الاسكندرية وهي تعيش في قصر مع عدوها انطونيو. المهم أن هذا الشعب لم تتح له قبل ثورة يناير فرصة حقيقية لاختيار حاكمه بإرادة كاملة, ربما استقر في الأذهان بعد التجارب الفاشلة إننا لا نصلح لقيادة أنفسنا تماما كإحساسنا بأن الحكم المصري لا يصلح لقيادة المباريات المهمة فيثور عليه الجمهور بدافع هذا الإحساس عند أي قرار. وللحديث بقية رابط دائم :