شهدت الأزمة السياسية تداعيات مؤلمة, انعكست إفرازاتها المفزعة علي الشارع المصري بشكل لم يعرف له مثيل في تاريخ البلاد ففي بعض المحافظات تجاوز المشهد حدود الاحتفال السلمي بالثورة الي أعمال العنف والقتل والعدوان علي المنشآت الحيوية وتحول المشهد كله إلي ضبابية كثيفة انعدمت فيها الرؤية السياسية والوطنية المعقولة وغابت في صيحات المتظاهرين ملامح العقل الواعي فعاشت مصر أياما مشحونة بالرعب والغضب والألم ونأمل أن تزول المحنة قريبا حتي يتوقف بكاء شعب طيب علي نزيف الدم, ومأساة التخريب والهدم. وقد أثار هذا المشهد غضب الجماهير المتابعة علي شاشة التلفاز فمضوا يتساءلون في استنكار حزين: من هؤلاء الذين طوعت لهم انفسهم أن يحرقوا مصر, ويذبحوا أبناءها؟ فأيا ما كانت الغاية من التظاهر فإنها لاتصلح في المجتمعات المتحضرة مبررا لأي وسيلة دامية أو عنيفة فالغاية لاتبرر الوسيلة إلا في مجتمع يدين بالشيوعية ويؤمن بضرورة تحقيق الهدف الحزبي ولو بالعنف حتي صرح لينين في مقال تنظيم الحزب الشيوعي عام1905 لنتخلص من رجالات غير حزبيين, ولايقبل أي نشاط لايشارك في جهود الحزب ونحن لانؤمن بهذا العنف في تحقيق أي غاية ولو كانت كريمة وإلا تحولت المجتمعات إلي فوضي حيث يسعي كل فرد أو فريق الي تحقيق غايته بأسلوب شريف أو غير شريف, فليس من المعقول مثلا أن انتصر لعقيدتي أو مذهبي أو حزبي بإعلان الحرب علي كل مخالف فتلك وسيلة بغيضة لم يعرفها الإنسان إلا في مراحل الطفولة البشرية أو في جاهلية الشعوب..وتلك مسألة يصعب ان تدخل في حساب الذين أشعلوا الفتنة في الشوارع والميادين لتحقيق أهداف الثورة.. واستباحوا أرواح إخوانهم من رجال الأمن وغيرهم لتحقيق أهداف الثورة, وشوهوا الصورة الجميلة للثورة المصرية في عيون العالم لتحقيق أهداف الثورة وعطلوا عجلة الحياة في مصر, وتسللت فرق التخريب الي قلب العاصمة حتي امتدت أيديهم الي مترو الأنفاق أيضا لتحقيق اهداف الثورة, ثم نتساءل بعد هذا العبث: ماذا بقي من كرامة الثورة وهيبتها في نظر العدو والصديق؟ لقد ضاق الشعب المصري بالمهازل التي ترتكب باسم الثورة وربما يسخر العالم من سلوكنا وهو يرانا بين الحين والآخر نرتد علي أعقابنا سنتين من تاريخ مصر وكأن الزمن وقف بنا عند مرحلة الثورة بعد أن اكتملت مؤسساتنا الدستورية تقريبا وصار لنا رئيس منتخب بإرادة شعبية أو كأنما يراد لهذا الشعب أن يرجع الي الوراء مسجونا في نقطة البداية حتي تنهار البلاد ونحن نهتف في الشوارع والميادين باسم الثورة.. وأسوأ شيء ان نجعل من هذه الثورة قناعا لتصفية الحسابات أو للتمرد علي نظام قائم لكي لايلتقط أنفاسه في إنجاز عمل أو تحقيق أمل أو حتي مراجعة النفس في تصحيح زاوة من زوايا المسير, وأحيانا نجعل من الثورة قناعا نبوح من خلاله بعذابات النفس المحاصرة بالمطامع الذاتية. وفينا مع الأسف من يجعل الهتاف بالثورة تعويذة لبدنه المسكون بأشباح موروثة من زمن الفساد, ومع هذا يحب الاعتراف بأن القيادة السياسية قد اعتمدت في سياستها علي حسن الظن بالقوي المناوئة في الحراك السياسي فتباطأت في حسم الأمور قبل أن يستفحل الخطر, وربما استهانت القيادة بضخامة الدور الذي تلعبه المليارات المسروقة في فتح شهية العديد من شبابنا المحروم من مطالب العصر ومستجداته وهي مطالب علا سقفها فوق مستوي التعيينات وزيادة المرتبات التي فتحت أبوابها بعد طول حرمان ولم ينس شبابنا أن في مصر فئة حققت ثراء عاجلا بعد الحروب أو الثورات, وعرفت كيف تستثمر أيام الغضب بممارسة السلب والنهب وربما القتل في أجواء شاعت فيها الفوضي واختل الأمن وغاب الرقيب. وفي تلك الأجواء لانبكي علي بغلة عثرت في بلاد العراق فيسأل عنها عمر رضي الله عنه ولكن من واجبنا أن نبكي علي أرواح مذبوحة ودولة مستباحة..أما شعبنا الطيب فربما غاب عنه وهو يتابع الأحداث المؤسفة بصرخات العتاب علي القيادة أو النظام القائم لفقدان الأمن بشكل لم يعهدوه من قبل غاب عن معظم الناس أن النظام السابق كان يعتمد في تأمين منصبه وهيبته علي فرق مدربة بلغت قمة الجودة في أدائها وإتقان عملها بشكل علمنا جميعا الأدب حين نتكلم أو حين نكتب حتي لاذ الجميع بالصمت عن الكلام المباح وغير المباح فحبس الأنفاس, وملاحقة الآراء في مهدها من دواعي الأمن الذي ألفه الشعب خلال أعوام طويلة بالإضافة إلي سرعة القضاء علي كل مخالف أيا كان فكره..وقد استكان الشعب لهذا الأسلوب رغم قسوته وعدوانه علي الحريات ولهذا سكن التمرد, وقلت الأحداث الشعبية المؤسفة وإن كثرت المآسي الدموية والتدميرية التي كان يفتعلها النظام لإحداث فتنة تشغل الجماهير عن سوءات القيادة.. والمعروف أن الشعوب التي لم تكن علي حظ كبير من الوعي قد تألف الظلم وتتعايش معه تعايشا يخفي وراء ظاهره البريء صراعا نفسيا محتدما إلي أن يأتي الله بالفرج ولكن لاتجد شعبا يستريح للفوضي في ظل حريات منسابة بلا حدود فهذا يفقد الدولة هيبتها, ويساعد علي استغلال الطاقات الشبابية في مجال الفوضي وخصوصا إذا ارتفع شعار البراءة للجميع وهو شعار بغيض يغري بالعدوان وسفك الدماء دون اعتبار لنزيف الدم أو بكاء الشعب..والمحزن في هذا المشهد أن مصر هانت علي كل القوي السياسية والحزبية, وهانت علي أبنائها وهم يرونها تحترق وفي نزيف مستمر..وكان المنتظر بعد الأحداث المؤلمة في بورسيعد والسويس والقاهرة أن يزداد خوفنا علي مصر فيتوحد الصف في حوار وطني يجمع قلوب المتفرقين علي هوي ولايزال الأمل معقودا في حوار يجمع ولايفرق ويبني ولايهدم,وينقذ البلاد من أجواء الغضب وحالات الاستنفار حتي يتسن للجميع أن يعمل في هدوء واستقرار.