الخطاب السياسي لايحمل قيمة ذاتية مهما كانت لغته وإنما تظهر قيمته إذا اكتملت له عناصر ثلاثة تشكل في النهاية نظاما هرميا قمته المرسله وقاعدتاه النص والمتلقي. والمتلقي للخطاب السياسي لايكون غالبا تابعا للمرسل فاقدا للإرادة بل يتفاعل مع الخطاب تفاعلا يؤدي إلي المشاركة في صنع المعني أو الموقف الذي تضمنه الخطاب واحيانا يبادر المتلقي الي حكم سلبي بمصادرة الخطاب او مصادرة المرسل أو التمرد عليهما. وهذا أن يحدث فلأن الخطاب لم يكن علي شابكة قوية بالملتقي أو الموقف وربما أحس المتلقي مافي الخطاب من تزييف وتحريف وقد تعودنا منذ أعوام طويلة أن يواجه الناس بخطاب يزيف الواقع ويشوه الحقيقة في تجاهل غريب لعقول الجماهير وقدرتها علي فهم الدفائن التي كان يعمدا لرؤساء إلي إخفائها بشتي الوسائل. ولهذا كان ينصرف الجمهور عن أي خطاب يلقيه رئيس مزور..فكل كلمة في خطابه تشير إلي أنه مغيب ان معاناة الإنسان المصري وربما بدا في كثير من خطاباته أنه كاره لهذا الشعب أو غريب عنه مسلط عليه ففي كل خطاب كان يواجه معاناة الناس بإعلان الإفلاس, وربما خرج في خطابه عن وقار الحاكم ليقوم بدور المهرج مع وزير ماليته الذي أفسد اقتصادنا وفر هاربا..لم يكن خطابا سياسيا ولكنه كان يبدو في كل مرة مسرحية هزلية يتهم فيها الشعب بفساد اقتصاد البلاد وضياع أموال الدولة وكانت الشماعة التي نواجه بها في كل خطاب كثرة الإنجاب وزيادة السكان بل كان أحيانا ينزل في الخطاب إلي مستوي الحاكم المعتوه فيجعل الإقبال علي الحج والعمرة سببا في صعف ميزانية الدولة حتي رمي الحجاج والمعمرين في بعض خطاباته بالسفاهة في إنفاق الأموال والغريب أن هذا النوع من الخطاب كان يجد أبواقا تدعمه, وتتبناه بكل اشكال التواصل والبث المستمر وربما نجح الفن في دعم الخطاب السياسي بشكل مؤثر وفي إقناع الجمهور بكل قضية ملفقة طرحها الخطاب لأن الفن ينقل الفكرة إلي الناس في كوكتيل محبب الي الحس العصري, ولهذا تعتمد القيادات السياسية لدي كثير من دول العالم علي الإبداع الفني في الاقناع بالنظام السياسي لأنه أقرب الي حس الجمهور من الخطاب المجرد أو الوعظية المباشرة ولعل هذا هو السبب الذي جعل البسطاء من ابناء المجتمع لا يستريحون في أول الأمر للغة الخطاب عند د.مرسي وشاع بين الناس كما نعرف أنه لا يجيد الكلام أو هو( ما يعرفش يتكلم) ومعناه أن قطاعا كبيرا من المصريين اليوم لا يستريحون للغة الوعظية في الخطاب السياسي وخصوصا في الأوقات التي تتعلق فيها الآمال بخطاب القادة.. ورغم أن لي تحفظا علي لغة الخطاب السياسي عند الرئيس محمد مرسي فإن هذا التحفظ له عندي وعند غيري أسبابه التي لا تحول دون الاعتراف بأننا نسمع لأول مرة خطابا سياسيا يوجه إلي الجمهور المصري حافلا بالصدق مع النفس والصدق مع الناس وهذا لا يتأتي إلا لرئيس يحترم عقلية شعبه, وواقعه ويقف من هذا الشعب علي حافة النبع يتسمع خرير الماء في المسارات الخلفية بل يقف من آماله وآلامه علي خط التماس, فيشاركهم بصدق في مواقع الألم ويقاسمهم بإخلاص في مواقع الأمل, والنهوض بالبلاد من كبوتها, والتطلع إلي حياة مستقرة. وفي الخطاب الذي ألقاه الرئيس أمام مجلس الشوري حرص علي قراءة الواقع المؤسف قراءة سياسية جيدة ولم يغفل عما يلاحق هذا الواقع من هواجس وشائعات وما يكتئد طريقه من عقبات في مجال الأمن والاقتصاد أو في واخل البلاد وخارجها.. ويستوقفنا في هذا الخطاب عدة أمور أهمها: أولا: أن الخطاب جاء في وقت امتلأت فيه الصدور بأشباح الخوف من كثرة الأراجيف والشائعات التي بالغت في الحديث عن الاقتصاد المصري المنهار حتي تصور العديد من أبناء الشعب أن رواتب الموظفين لن تصرف بعد هذا الشهر. ولعبت الظنون ببعض الناس حتي خشي ان يستيقظ صباحا فلا يجد رغيف العيش. ومعروف أن هذه الأراجيف يمكن أن تؤدي إلي أسوأ العواقب في تلك المرحلة بالذات ولهذا جاء خطاب الرئيس مطمئنا من غير تمويه أو خداع بل كان حاسما في مواجهة المروجين علي اختلاف عقولهم ونواياهم بل اشار اليهم بعبارة بعثت الطمأنينة في قلوبنا إذ يقول الذين يتحدثون عن الإفلاس هم المفلسون ورغم اعترافنا بسوء الأحوال الاقتصاد في البلاد فإن الحديث عن الإفلاس بهذا الشكل المهزوم المشئوم لا يتأتي إلا من المفلسين عقلا وخلقا كما قصد الرئيس في عبارته فشعب مصر لايفقد مقومات الحياة وأسباب العيش وفيه نهر يجري بين الضفتين وأرض تجود بثمارها وشعب مصر مهما اشتدت به الأحوال لا يمكن ان يبيع نفسه لمعونات خبيثهة تشتري بها الأمم أو كما يقول المثل العربي تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها ثانيا: كانت اللفتة الذكية في الخطاب هي الحديث عن أمن الخليج مؤكدا أن مصر لن تكون سببا في زعزعة أمنه فأمن مصر في أمن الخليج وأمن الخليج في أمنها.. وتلك نظرة فاحصة لسياسي واع بطبيعة المرحلة, وقارئ جيد لأهمية الصف العربي في الحاضر والمستقبل وليس لهذه الإشارة معني إلا أن الخطاب المصري لم يعد مقيدا بأغلال أو مكبلا بقيود كانت لا تسمح للخطاب السياسي عندنا أن يتجاوز المباح له في الحديث عن الصف العربي أو فلسطين. ثالثا: جاءت الإشارة إلي الإعلام في الخطاب شبيهة بزفرة تتصاعد من صدر ضاق ذرعا بما يجري في الساحة الإعلامية, وهذا ما تضمنته عبارة الرئيس ندعم الإعلام الحر ومعناها ان الإعلام مكبل بقيود سلبته المعني الصحيح للحرية وقد نص الخطاب علي ثلاثة قيود هي( سطوة السلطة مصالح الجماعات التمويل الفاسد) رابعا: ركز الخطاب علي رغبة الرئيس في توحيد الصف, وجمع المتفرقين علي هوي واحد, فدعا الأحزاب السياسية والقوي الوطنية إلي حوار يسهم إلي حد بعيد في تقارب وجهات النظر لتكون المصلحة العليا للبلاد هي معيار الاتفاق أو الاختلاف. خامسا: حذر الخطاب من العنف بكل اشكاله سواء صدر من افراد أو جماعات أو الدولة وهو تحذير مطلوب بقوة لأمن البلاد, وضرورة من ضرورات الاستقرار ولكنه يشكل خطرا لا تحمد عواقبه إذا ظل مجرد تحذير شفوي يقصد به التهديد فإذا لم يترجم هذا التحذير إلي عقوبات رادعة لمثيري الشغب ودعاة العنف فاقرأ علي أمن البلاد تحية الوداع خصوصا بعد أن صار لمصر دستور تحتكم اليه. سادسا: جاء في الخطاب استنكار شديد للتدخل في شئوننا وبشكل يوحي بأن هناك محاولات تبذل للاستقواء بالخارج أو استغلال الظروف الاقتصادية لزعزعة النظام السياسي قبل ان تكتمل مؤسساته وتلتئم جروحه وهذا هو المتبادر إلي الذهن من قول الرئيس لن نخضع أبدا ولن نركع لأحد بفضل الله ولكن مهما يكن وراء هذه العبارة من أسباب فالمؤكد ان إيقاعها الساخن لا يريح النفس في خطاب يلقي في دورة انعقاد مجلس الشوري وإنما تستريح النفس اليها إذ قيلت في انعقاد مجلس الحرب.. وفي كل الأحوال نحن لا نستريح إلي عبارات انشائية كانت مستهلكة في خطاب النظام السياسي الفاسد حتي ملها الجمهوري, وضاقت بها الصدور لأنها كانت ترد علي السنتهم عارية من الصدق مخالفة للواقع تماما كحديثهم عن القضية الفلسطينية لإبراء الذمة.. وكم شاركوا في هذه القضية بألسنتهم في كل خطاب ثم ضيعوها بأعمالهم ومجاملاتهم ولهذا لا نرضي لرئيسنا ما لا نرضاه لانفسنا في التعبير عن قضايانا بعبارات صارت مألوفة في باب الخداع الوطني وما أجمل أن نجعل مخالفتنا إياهم حتي في لغة الخطاب سلوكا جديدا في علاقتنا بهذا الشعب الطيب.