السمة البارزة في التاريخ السياسي المصري منذ ثورة1952 هو سمو القيادة السياسية علي المؤسسات نتيجة عدم وجود تقاليد راسخة وقيم متأصلة للمؤسسات السياسية في المجتمع المصري وكان ذلك مفهوما في العهد الناصري بعد الثورة والكاريزما الجارفة للرئيس عبد الناصر الذي حاول في سنواته الأخيرة إرساء الحزب الكاريزمي في المؤسسات عبر انشاء الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي داخله ليكون بمثابة مرحلة انتقالية بين سلطة الزعيم الكاريزمي من ناحية وسلطة المؤسسات من ناحية اخري. في العهد الساداتي رفع الرئيس السادات شعار دولة المؤسسات ولكن استمر سمو القيادة السياسية علي المؤسسات بمعني ان اسلوب القرارات المهمة كانت تتخذ خارج المؤسسات السياسية ثم يأتي دور المؤسسات في مرحلة لاحقة لاضفاء الشكل القانوني وتقديم المبررات المختلفة لتلك القرارات واقناع الشعب بها. وزادت تلك السمة وضوحا في العهد المباركي ومن ثم تظل الرئاسة مع تغير العهود بمثابة القلب من النظام السياسي المصري, والموقع الذي يحظي بقدر من القوة السياسية التي تتسم بالتركيز..وتنبع هذه القوة, في جانبها من السلطات الدستورية الضخمة.الدستور المصري لعام1971, الذي كان يحتوي علي211 مادة,تختص30 مادة منها بحقوق وسلطات رئيس الجمهورية, وهي حقوق واسعة ومتشعبة. ومن ثم ساد الاقرار الي ماقبل ثورة25 يناير2011 ان مصر دولة رئاسية, ليس فقط طبقا للدستور ولكن بحكم الثقافة السياسية كذلك, فالرئيس هو السلطة السياسية المهيمنة في مصر لدرجة تجعل له الحق في توجيهات الاقتراح والاعتراض علي التشريعات البرلمانية. وله حق إصدار القوانين بمراسيم في مجلس الشعب. يضاف الي ذلك مكمن قوته وهو حقه الدستوري في تعيين رئيس مجلس الوزراء والوزراء ونوابهم وإعفائهم من مناصبهم. مع الاحتماء بقانون الطواريء من هنا يمكن النظر والتقييم لصلاحيات رئيس الجمهورية في مشروع الدستور الجديد ويمكن النظر الي الجدال الكبير الذي صاحب ويصاحب ذلك الدستور وتتركز الانتقادات في ان المشروع الدستوري لايزال يكرس فكرة سمو القيادة السياسية علي باقي المؤسسات والا كيف نفهم تقريبا نفس الصلاحيات التي تنطلق من ان الرئيس فوق جميع المؤسسات وفق ماجاء في المادة(132) من انه يراعي الحدود بين السلطات ولايلتزم بتعيين رئيس وزراء من ا لأغلبية وله حق حل مجلس النواب ويعين رؤساء الهيئات الرقابية ويعترض علي مجلس النواب ولاتسير قرارات المجلس الا بثلثي المجلس( م104) واستمرار الاحتماء بقانون الطواريء سييء السمعة. كنا نأمل بعد الثورة الغاء موضوع الرئيس الحاكم الاب الراعي بين السلطات والا كيف نكيف الخلاف الحادث بين السيد رئيس الجمهورية والقضاء المصري. ونذكر انه لم يتمكن الرؤساء السابقون مبارك أو السادات وجمال عبد الناصر ذو الشخصية الكاريزمية من أن يهمش علي نحو فاعل ودائم القضاء الذي اعتبره المصريون في شكل متزايد منذ بدايات الدولة المصرية الحديثة في القرن التاسع عشر عنصرا شرعيا وضروريا في النظام السياسي. وربما ابتكر السادات المحكمة الدستورية العليا لتكون أداة لتمرير سياساته من دون نقاش, لكنها فرضت علي مدي السنين استقلالها وتحولت الي قوة يحسب لها حساب. وقد يبدو الأمر بسيطا في هيمنة رئيس الجمهورية علي صنع السياسة الداخلية. ولكن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك بكثير فالقادة حتي أكثرهم تسلطية, لايصنعون قراراتهم من فراغ أو في فراغ بل في إطار مؤسسي معين, ويؤثر هذا الإطار علي سلوكهم كما يؤثر علي عملية صياغة البدائل والطريقة التي تتم بها المفاضلة بينها. وحقيقة الأمر أن مصر تعد مجتمعا علي درجة عالية من التطور التنظيمي والتشعب في التوجهات والرؤي الثقافية مقارنة بالدول العربية الأخري. ومن ثم فانه علي الرغم من السلطات الواسعة التي يتمتع بها الرئيس إلا انه يأخذ في اعتباره أن دوره لايعدو أن يكون دور المناور. إن مشروع الدستور الجديد لايحل معضلة المشكلة البنائية التي تواجه النظام السياسي المصري الجديد فيما يتعلق بأسسه وقواعد حركته؟ كما أن الطريقة التي صيغ بها مشروع الدستور وعدم التوافق الوطني عليه مهما كانت نتيجة الاستفتاء علي مايمكن تسميته ب أبو القوانين قد أسقطت عنه طبيعته السامية, وجعلت منه مجرد وثيقة تعكس رغبات جماعة او جماعات بعينها,ولاتحظي بالإجماع الوطني, ومن ثم يصبح مجرد ورقة تستخدم من جانب طرف واحد في الصراع السياسي, بدلا من أن تكون المرجع المرشد لدي كل الفاعلين السياسيين يحتكمون اليها عندما يحتدم بينهم الخلاف, ويرتضون بما تقضي به نصوصها أيا كان تأثيرها علي مصالحهم.