ما الذي جعل الخالق سبحانه وتعالي يصدر في أول لقاء بين السماء والأرض من خلال وحيه إلي رسوله بهذه الكلمات الثلاث؟ العلق والقراءة والقلم, إنه كلام الله المعجز الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فتعالوا نتدبر المعاني والغرض من وجود كل كلمة من هذه الكلمات الثلاث في أول لقاء بين السماء والأرض, لنعرف إلي أي مدي يحترم الإسلام وجود الإنسان المكرم, وإلي أي حد يقدر العلم والمعرفة ويعلي من شأن العلماء, وإلي أي مدي يدرك قيمة وقدر القلم, الذي به تدار الحياة وتسجل به الحضارات. فأول كلمة كتبت في القرآن الكريم, وكانت عنوانا لأول سورة نزلت منه هي العلق في سورة العلق التي تعني في لغة العرب الدم المتجمد وما يعلق بالشيء فيعتمد به علي حياته وبقائه. ولكنها في الحقيقة والواقع هي كلمة طبية صرفة بكل ما تحمله الكلمة من معني, ترمز إلي علم الأجنة وإلي خلق الإنسان ومراحل تكوينه وهو في بطن أمه, فهي إذن لا تتحدث عن كلام الطب بشكل عام, لكنها تتحدث عن أدق التخصصات الطبية في علم الأجنة وعلم تخليق الإنسان. فهي تشكل أهم مراحل تكوين الجنين, من نطفة فعلقة فمضغة, فلولا العلق ما كان الإنسان ولولا وجود العلق ما وجد إنسان علي ظهر الأرض إذن هي تعني حياة الإنسان ووجوده بكل ما تحمله الكلمة من معني بغض النظر عن بداية خلق ادم أبوالبشر من تراب والتي سوف نتكلم عنها باستفاضة في المقالات التالية. فما الذي جعل القرآن الذي نزل منذ ما يقرب من ألف وخمسمائة سنة وكانت علوم البشر عن خلق الإنسان وتطوره في هذا الوقت من الزمن محدودة أن يضع هذا العنوان الطبي لأول سورة نزلت منه دون الخوف من أن يأتي أحد بعد ذلك فيكذب خلق الإنسان من علق لولا أن الله هو منزل القرآن وهو خالق البشر وهو العالم بتكوين هذا الإنسان من علق.. فلو كان القرآن من عند البشر ما وضع هذه الحقيقة العلمية الثابتة التي لم ولن تتغير بمرور الزمن, خوفا من أن يأتي أحد ويقول ان الإنسان ليس مخلوقا من علق فيهدم القرآن من اساسه, لكن كونه من عند الله كان هذا الاستهلال الطبي في أول سورة من سور القرآن لأن الله أعلم بخلقه وكيف أنشأ وكيف خلق؟ ولو كان الإسلام دين عبادة فقط كما يدعي أعداؤه لأهمل العلم والمعرفة وما وضع لأول سورة من سوره عنوانا علميا طبيا دقيقا, هو العلق الذي لم تكن معروفة طبيعته ولا تركيبته من قبل حتي لم يكن معروفا من بعد إلا في نهاية القرن العشرين. ولو كان الإسلام دين عبادة فقط لكان عنوان أول سورة مثلا هي سورة الحج أو تكلم في مطلع حديثه عن الصلاة والصيام والزكاة والشهادتين وأهمل الحديث عن كل ما يخص العلم والمعرفة. لكن كونه دين علم ومعرفة وحضارة كان لزاما عليه أن يهتم بهذا النوع من المعرفة ويجعله يتقدم علي فقه العبادات لأن المعاملات بين الناس في الإسلام تتقدم علي غيرها من كل أنواع العبادات. وتقدم العلم والمعرفة علي العبادات في أول سورة من سور القران الكريم يعني أن الإسلام دين يهتم في المقام الأول بالمصلحة العامة للناس, ومنه تنبثق قيمة العلم والمعرفة فتتحول تلقائيا إلي معاملات تصب في المصلحة العامة لحل مشكلات الشعوب, في نفس الوقت الذي تؤخر فيه المصلحة الخاصة لأنها لا تعود بالنفع علي المصلحة العامة إلا بقدر إيمان صاحبها والقائم بها بقيم واخلاق ومبادئ الإسلام التي تضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار, والواقعة علي أرض الواقع من خلال الفعل وليس من خلال الكلام. لان الإسلام دين الأفعال وليس دين الأقوال, والحفاظ علي الصالح العام حق مقدس لا يعلو فوق حق شخصي أو حق طائفة أو قبيلة أو جماعة من الناس, ولذلك عندما سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن المرأة التي تقوم ليلها لكنها تؤذي جيرانها قال:( هي في النار), لانها عبادتها لنفسها تضرها أو تنفعها لكن كون العبادة تتحول إلي عمل خبيث بفعل هذه المرأة التي تؤذي جيرانها فيجب أ تعاقب عليه والذي اصدر عليها الحكم هو رسول الإسلام صلي الله عليه وسلم لأن هذا هو الاصل حتي ولو كانت تقوم الليل.