لابد إن اقول ان زيارات السيد وزير التربية والتعليم للمدارس التابعة له هي زيارات مفاجئة فعلا, وكاشفة فعلا, وتجعله يقف علي ارض صلبة في معرفته لواقع مؤسستنا التعليمية التي تدهورت كثيرا بفعل سياسات سابقيه الذين اكتفوا بالتقارير المدبلجة التي تشيد بحكمتهم وقراراتهم السديدة, وتمتلئ بالاحصاءات الناجزة والانجازات الباهرة, يقرأونها في مكاتبهم المكيفة, ثم يدفع المكتب الاعلامي التابع للوزير بتلك التقارير الي مندوبي الصحف بعد تقديم الحلوان الواجب, وكان هذا ما دفعني لأكتب. منذ أقل من عام في صحيفة المصري عن الوزراء بوجه عام ووزير التربية والتعليم بوجه خاص, وزيارتهم التي تواطأ الجميع علي تسميتها زيارات مفاجئة وقد نشرت عدة صحف صورة لوزير اسبق ومن زوايا مختلفة وهو يمسك بممسحة في دورة مياه احدي المدارس لينظفها بنفسه, فاذا كان يمكن وجود خمسة مصورين ومعهم خمسة محررين بالطبع فبالله عليكم كيف تكون الزيارة مفاجئة ؟ وكان ما جاء فيها: سيارة حضرة صاحب المعالي الوزير تتقدمها عدة موتوسيكلات فخمة, تتلوها عدة سيارات جيب شيروكي سوداء للحرس, ثم تتبعها سيارات عديدة أخري تضم كبار الموظفين والبروتوكوليين. تتوقف السيارة بالضبط أمام الباب وفوق الممشي السجاد الأحمر, ويفتح الحرس الباب, بأجسامهم الفارعة, والعديد من الأسلحة والأجهزة التي تطل من إجزاء مختلفة تحت ملابسهم, ويخرج الوزير قدمه اليمني ثم يدلف إلي خارج السيارة بباقي جسمه, ناظرا إلي أعلي في خيلاء وزهو, وتدور الكاميرات تنطلق الفلاشات, وفجأة تنطلق من العاملات في المنشأة والمطلات علي الموكب الظافر عشرات الزغاريد الحياني التي تشق عنان السماء. ويشرع معالي الوزير في مصافحة كبار مستقبليه وتلقي بعض التقارير الشفهية منهم. أعتقد أن جميع الأصدقاء من القراء, قد شاهدوا هذا المشهد عشرات المرات بأعين رءوسهم, أو علي شاشات التلفاز, ومن ثم ندع معالي الوزير يبدأ جولته التاريخية ولنري ماذا يكتب الكتاب. يكتب الكتاب عن المدارس التي بلا أثاث, وبلا مرافق ودورات مياه, وعن العشوائية والفوضي وعن اشكال والوان من التقصير والاهمال تحيط بالعملية التعليمية. ويكتبون عن التطرف الذي ساد والنقاب الذي انتشر, التلاميذ الذين يصلون إلي الإعدادية دون أن يتمكنوا من فك الخط, تلك الظاهرة الحديثة التي تعبر عن شكلية التدريس والإدارة والتوجيه والامتحان. هذا كله وأكثر يكتبه الكتاب. ومع ذلك لا يقرأه الوزراء, فوقتهم لا يسمح بقراءة خمسين مطبوعة( صحف ومجلات) تصدر يوميا, فهم مثقلون بتسيير العمل في وزاراتهم, والرد علي الأسئلة والاستجوابات في مجلس الشعب واستقبال الوفود الأجنبية ذات الحيثية, وحضور جلسات لجان الحزب, وبالتالي فلا يري معاليه من الخمسين مطبوعة إلا بعض القصاصات والمقالات المدفوعة تعدها مكاتبه والتي تشيد بحكمة معاليه, وتفيض سبابا وتجريحا في أصحاب الهوي والغرض أعداء النجاح وأصحاب الأقلام الموتورة والمسمومة ومدارس كأنها المدرسة الألمانية أو الإنجليزية رغم أنها في قرية زاوية جروان مركز الباجور منوفية وقد اقسمت امامي احدي المدرسات ان مدرستهم المتهالكة قد استلفت من احدي المدارس الخاصة التابعة لنفس الادارة, تلاميذ ومعلمين لتجميل صورتها بدلا من التلاميذ والمعلمين الحقيقيين يرتدي معلموها ربطات العنق, ويجلس التلاميذ بيونيفورمهم وفي أدب جم يستمعون لمعلمهم القدير, وعلي الملاعب المغطاة بالرمل الأحمر اللامع, تندمج الطالبات بجونلاتهن البيضاء القصيرة كالفراشات في رقصة توقيعية رشيقة علي أنغام السيمفونية الخامسة لبيتهوفن تنطلق من الإذاعة المدرسية, أمام معلمة لا تقل عنهن رشاقة وجمالا. وتزخر الأركان بعشرات الأجهزة: كمبيوتر, ميكروسكوب, نموذج مجسم للكرة الأرضية, وركن خاص لابداعات التلاميذ الفنية, وعشرات الجوائز من دروع وكئوس وشهادات تقدير حصدها طلاب المدرسة. بعد هذا وبصحبة الزغاريد تاني يخرج الوزير وهو يستعجب ويلعن في سره هؤلاء الكتاب الكاذبين الذين يكتبون بلا علم وبلا تمحيص, ويسأل نفسه: أي قوة في الأرض تستطيع أن تخلع عن أعين هؤلاء الكتاب تلك النظارة السوداء, نظارة الزيف والحقد والكراهية هذا نص مطول اعتذر للقراء عنه بالطبع من مقال كتبته كما اشرت بعنوان وزراء الواقع وكتاب الوهم ولكن الذي يبدو فعلا ان الدكتور احمد زكي بدر, يسعي لتغيير تلك الصورة النمطية التي عرفناها والفناها عن زيارات الوزير المفاجئة. فزياراته مفاجئة, فعلا, بلا ضجيج ولا تشريفة ولا حرس وكأنه احد الزائرين الذي يأتي ليسال سؤالا او ليقضي مصلحة فعلا وقد كتبت في نفس هذا المكان منذ عدة اسابيع انني وجدت نفسي امام الوزير وجها لوجه في مكتبي, وهو مالم يحدث مطلقا في عهود خمسة وزراء سابقين للتربية والتعليم. ونأتي بعد ذلك لموقف الوزير من الفساد الذي هيمن علي الكتاب المدرسي وصناعته, فلاشك ان لقمة الكتاب المدرسي مثيرة للشهية اذا عرفنا ان وزارة التربية والتعليم تطبع سنويا مالا يقل عن الف وثلاثمائة عنوان, في صورة كتب مدرسية وادلة للمعلمين وكتب انشطة وتدريبات فضلا عن كتب الدعاية للوزارة نفسها, ويتكلف كل هذا مالايقل عن ملياري جنيه, يتحدث الناس عن حوت الكتب السابق والمقصود به وكيل الوزارة لقطاع الكتب ا.ع والذي قيل ان له فردة علي كل نسخة كتاب مدرسي من ملايين نسخ الكتب التي بين يدي الطلاب, والذي قيل ايضا انه اقوي من الوزير شخصيا. يري الناس الفساد بأعين رءوسهم, ويكتبون للوزير, فيفاجأون بإستدعاد المشكو في حقه للشاكي: كيف تجرؤ علي ارسال مثل هذه الشكوي للوزير ؟ وعينك ما تشوف الا النور بهدلة وتعسف وتعنت واضطهاد وحرمان من الحوافز والاضافي وهلم جرا, وتصل الرسالة للموظفين انه لا سبيل الي مواجهة الفساد, والحرص علي لقمة عيش الانسان ورزق اولاده, اهم الف مرة من حكاية الصالح العام. وقد عرفنا في مركز تطوير المناهج من يؤلف كتاب الوزارة المدرسي المقرر علي الطلاب, والكتاب الخارجي في نفس المقرر والذي يطبع في الفجالة, وتتكفل منظومة الفساد بتعطيل كتاب الوزارة ريثما يتم بيع ما يكفي من الكتاب الخارجي, وكنت اتساءل كيف يمكن هذا؟ الم تفطن الوزارة الي ضرورة منع مؤلف الكتاب الذي تقاضي ثلاثين الفا من الجنيهات من الوزارة, من اعادة نشره في الفجالة ككتاب خارجي, وكان يقال لنا ان العنوان ليس هو هو, وهكذا يصبح كتاب اللغة العربية في الوزارة هو كتاب الاضواء في الفجالة وهكذا مع ان المؤلف واحد, فكنا نتساءل وهل عقمت آلة الوزارة القانونية عن صيغة تعاقد تمنع المؤلف من اعادة بيع الكتاب للفجالة ولو من منطلق انها صاحبة الملكية الفكرية... ولكنه الفساد الذي يكتسح في سبيله كل شئ. وفي هذا الاسبوع انهي انتداب وتعاقد عشرات العاملين بنفس مركز تطوير المناهج لانهم جمعوا بين دورهم كمحكمين للكتب التي تتقدم بها دور النشر ككتب مدرسية, وقد ثبت من التحقيقات ان اولئك المستبعدين قد اشتركوا في تأليفها وهكذا جمعوا بين التأليف والتحكيم, بالذمة هل شاهد احد مثل هذا الفساد؟ ولكن يبقي السؤال: ان هؤلاء الذين تم إلغاء انتدابهم, لم يأتوا الي ذلك المركز بالصدفة, او وفق معايير شفافة, ولكن لاشك أن هناك من خطط ودبر وعرف من اين تؤكل الاكتاف, فمن هو يا تري الذي خطط ودبر؟ وهل سيلتفت الوزير الي منظومة التدريب, والتحسين, والتعاون الدولي, وغيرها من المنظومات التي صارت اقطاعيات لا احد يعرف كيف يعمل من يعمل فيها, ولا اسس اختيارهم والمعايير المسئولة عن اسناد تلك الاعمال لهم ولا ما إذا كانت تتم محاسبتهم, أم ان منظومة الفساد لا تطيق كلمات المعايير, الشفافية, المحاسبة يا سيدي الوزير, لقد دخلت عش الدبابير لا بل عش العقارب, فاليك تحية مستحقة وواجبه