فيلم بالألوان الطبيعية من إخراج أسامة جرجس فوزي وسيناريو هاني فوزي هو مثال وتجسيد حي لتيار السينما الجادة التي تسعي لتقديم أفكار عبر الشريط السينمائي, فتظل أفكار علي الشريط السينمائي لا ترتقي لكونها فيلما سينمائيا. فنحن أمام شاب يلتحق بكلية الفنون الجميلة في مواجهة نظرة المجتمع لتلك النوعية من الدراسة التي يري أنها متخلفة وحرام وضياع للمستقبل, التي تجسدها أولا شخصية الأم التي ترغب في دراسة ابنها لمهنة الطب حتي يكون ذا حيثية في المجتمع, فتصدم بدراسة ابنها لمسخرة الفنون الجميلة فيظل أنين حزنها علي ضياع مستقبله حاضرا داخله ومصاحبا له ليعلن له فشله الدائم. يواجه في الكلية تيارين شديدي التباين, ولكنهما في الحقيقة هما وجهان لعملة واحدة.. الفساد في السلك الجامعي, والتطرف الديني والتزمت تجاه الفن والتصوير. فأعضاء هيئة التدريس غير كفء ولا يعملون ومرتشون ويستغلون الطلبة ويعطون التقديرات جزافا لطلاب من مريديهم يعاملونهم كالعبيد والخدم, ويحرمون الموهوبين من التقدير الفعلي ليتم تعيين من لا يستحق عضوا جديدا في الهيئة التعليمية الفاسدة. التطرف الديني بدأ بنفاق الدولة السادتية للتيارات الدينية بمنعها لرسم الموديلات العارية في الكلية لأول مرة منذ نشأة كلية الفنون الجميلة في الأربعينيات, وصولا لظهور التيارات الدينية بقوة داخل الكلية لتحرم الفن والرسم والاختلاط وإلي أخر هذه السلسلة من التردي التي نعرفها ونعيشها في حياتنا اليومية. هذه السلسلة من الأفكار والمواقف مما آل إليه المجتمع المصري من ترد وامتهان لقيمة الفن في المجتمع قدمها الفيلم مصاحبة بآراء نقدية لحال المجتمع المصري وما وصل إليه, ولكن في صيغة أسكتشات متتالية لمواقف غير مترابطة لا يجمعها سوي كونها تدور في نفس المحيط, ولا يضير الفيلم من شيء لو قدمنا ترتيب أحد المشاهد عن الأخري أو لو حذفنا أحد المشاهد أصلا.. فالمهم لدي صناع الفيلم هو إعلان أكبر قدر من المواقف وعلو صوتهم بأكبر قدر من الأفكار. تكثر الشخصية الرئيسية الفيلم عبر المنولوجات التي تعلن لنا بها عن أفكارها وما يجيش داخلها من أحاسيس وأفكار الفيلم نفسها يلجأ لصوت التعليق من خارج الكادر كأسلوب درامي وكأننا أمام فيلما تعليميا تلقيني. ونحس في الكثير من الأوقات أن الشخصيات تتحدث بلسان المؤلف وليس بلسان الشخصية الدرامية.. فالمهم هو إعلان المواقف والمزيد من المواقف وكأننا أمام مسلسل إذاعي وليس عملا سينمائيا يعتمد علي الصورة. يعيب الفيلم أيضا السطحية في معالجة الكثير من الظواهر حيث أن القناعات من الظواهر المختلفة هي قناعات كاتب العمل وليس تفسيرا علميا للظاهرة, وأكبر مثال علي ذلك هو تحول البطلة للتزمت وارتداء النقاب, والذي يجعل الفيلم مصدره إحساسها بالذنب لأقامتها علاقة غير شرعية مع بطل الفيلم وزميلها في الدراسة.. بالطبع هذا أمر شديد التبسيط والسذاجة. فظاهرة النقاب في الجامعة والمجتمع ظاهرة لها أسبابها المجتمعية والثقافية لا يمكن اختزالها في عقدة نفسية لشخصية صنعها مؤلف العمل.. كما أن العمل يقدم لنا شخصيات هي عبارة عن عرائس يحركها المؤلف عبر خيوط يمسكها بيده لا نعرف سببا لسلوكها وأفعالها سوي أنها تحقق تجسيدا لأفكار المؤلف المجردة, فالفتاة العادية تتحول فجأة إلي فتاة متحررة تقيم علاقات غير مشروعة, دون أن نعرف ما هو التحول الذي أوصلها إلي هذا, وكأن المجتمع لا يحوي الا فتيات متزمتات أو هؤلاء اللاتي يعاشرن زملاهن دون زواج, بل ان الأمر وصل به إلي تقديم شخصية نسائية تلد طفلا دون زواج وتحتفظ به بمباركة أمها وكأننا أمام أمر طبيعي يحدث كل يوم. الحكم علي شخصيات المؤلف من جانبي ليس حكما أخلاقيا, ولكنه حكم درامي علي شخصيات تعيش وتحيي في مجتمع نعرفه كلنا, وليس من الكافي أن نتعامي عما يطرحه المجتمع من شروط حتي تكون غير موجودة أو تنتهي.. قد تكون تلك هي أمالنا ولكنها ليست الدراما. الفيلم يخلط الأساليب ويمزج الأنماط وهو ما يقدم قدرا كبيرا من التشويش.. فهو يقدم ما هو فنتازي مع ما هو واقعي وكأنه مسموح لصانعي العمل أن يقدموا ما يجول بخاطرهم في أي وقت وأي زمن, ولا أنكر أن الكثير من المواقف الفنتازية والرمزية في الفيلم شديدة الجمال والإبداع.. مثل ظهور الأم للبطل في مواقف عدة وكأنها صوت الضمير, أو خلط الموسيقي الشعبية بالأجنبية بصوت الأذان مع وعظ القسيس, ولكن ذلك وضع في السياق بشكل قسري مجحف. كما أن شخصيات الفيلم تستخدم في فترات وتترك ليتم العودة إليها بعد ذلك بقوة من أجل توصيل فكرة المؤلف( مثال شخصية الطالب خادم أساتذته والمعيدة الفاسدة) فنحن نفقد أثرهم لنعود إليهم بكثافة مرة أخري ليكونوا محور الجزء الأخير من الفيلم, علي العكس فإن الشخصيات التي يتم استنفادها كفكرة يتم الاستغناء عنها طواعية وتلقي في سلة المهملات وكأنها لا تستحق أي تعميق لأحاسيسها.. فقد أدت دورها, ولعل شخصية البطلة( يسرا اللوزي) التي أخفاها الفيلم من بعد إلقائها لخطبتها المتطرفة عن تنكرها للفن والرسم خير مثال. أما القضية المهمة التي تثير الحنق في الكثير من تلك الأفلام المقدمة لرسائل معادية للتطرف والتزمت فتتركز في مواجهتها الفكر المتطرف المعادي للمرأة ودورها في المجتمع بتقديمها لنماذج نسائية متحررة جنسيا وذات علاقات خارج الزواج. وكأن حرية المرأة تتركز في الحرية الجنسية بلا قيد ولا شرط, وهو أمر شديد الخطورة يزيد المتطرفين غلوا وتزمتا, ويجعلهم يقدمون أفكارهم بشكل أوسع وأكثر انتشارا. نعم فتلك النوعية من التفكير تجعل المتطرفين يقدمون المعادين لهم علي أنهم دعاة للفسق والفجور والانحلال فتزداد شوكتهم قوة ويزداد تطرفهم نجاحا. لا يمكن ان تحول الأفكار التي تجول بخاطرنا إلي عمل سينمائي, فيجب خلق المحتوي الدرامي المتكامل الذي من خلاله تقدم تلك الأفكار, فلا الأفلام تصنع من أجل صانعيها, ولا الأفكار تصل للجموع بمجرد اعلاء قريحتنا بها.. الفرق بين صاحب الفكر وكاتب الدراما, أن هذا الأخير يمكنه أن يعطي الأفكار روحا بتحويلها إلي شخصيات تحيا و تتنفس داخل وسط درامي متطور يمكنه جعل المتفرج يتمثل أبطاله ومن ثم قد يتبني ما يقدمه العمل من أفكار. لهذا تظل السينما الجادة عملا سريا معزولا عن الجمهور فهي لا تسعي إليه, وتظل أفكارها تمتع صانعيها كمن يسمع صوت غنائه في الحمام.