ومع تسلمينا بوجود نظرية المؤامرة في حادث بورسعيد المروع, وسعي أطراف محددة لإحداث هذه الأزمة لخلق حالة من الفوضي وتصدير أزمات متتالية للسلطة الحاكمة لتأليب الشعب عليها. أظهرت مذبحة استاد بورسعيد وملابساتها مأساة الإدارة المصرية التي تتسم بأسلوب رد الفعل, وقد كشفت هذه الواقعة الدرامية عورة الإدارة علي المستوي العام أي إدارة الدولة وادارة المؤسسات, والمتابع لواقع الادارة المصرية وممارساتها خلال الاربعين عاما الماضية يستطيع ان يقرر بأن النمط العام لهذه الادارة هو الإدارة برد الفعل أو ما يسميreactive والذي يعني الانتظار حتي وقوع الحدث أو المشكلة ثم يبدأ التصرف المتأخر الذي يحاول انقاذ ما يمكن انقاذه أي أن الحدث هو الذي يحرك فعل الادارة في غياب رؤية واستقراء المستقبل وفقد القدرة علي المبادرة بتحريك الاحداث إلي الوجهة التي تحقق الأهداف الموضوعة مسبقا وهذا النمط يطلق عليه ايضا الادارة بالأزمات لأن العمل برد الفعل يوقع الادارة في أزمات كثيرة وما إن تخرج من أزمة حتي تغرق في أزمة أخري وهكذا يكون الشكل العام في غياب ثقافة التخطيط طويل الأجل الذي يكسب القائمين علي ادارة الدولة ومؤسساتها فكر المبادأة وامتلاك أدوات وآليات التحرك الايجابي الذي لا يكتفي برد الفعل. وهذا التخطيط قد تجلي في حرب اكتوبر73 عندما توافرت الارادة السياسية والعقيدة العسكرية الاستراتيجية التي امتلكت زمام الامور بالتخطيط الواعي وحسن التنفيذ الذي اكسب القوات المسلحة المصرية المبادرة لأول مرة, بعد ان كانت تعمل برد الفعل في الحروب السابقة, ولكن في السنوات التالية بدأت تسود ثقافة الإدارة بالأزمات وتكرست هذه الثقافة السلبية في سنوات حكم المخلوع وخاصة في سنواته العشر الأخيرة التي شهدت عددا غير مسبوق من الأزمات والكوارث ومنها: حادث حريق قطار الصعيد( فبراير2002) وحادث احتراق قصر ثقافة بني سويف( سبتمبر2005), وحادث غرق العبارة السلام( فبراير2006), وحريق مجلس الشوري في( اغسطس2008), وحادث انهيارات صخور الدويقة( سبتمبر2008), وسيول سيناء واسوان وكنيسة القديسين في( يناير2010), بالإضافة إلي أزمات السلع التموينية وانهيار العقارات بسبب الفساد المالي والاداري في المحليات( وفي هذا السياق لا نستبعد فرضية ان النظام البائد كان يفتعل بعض الأزمات وهذا منهج في الادارة يسمي الادارةبصنع الأزمات وذلك لتحقيق مآرب سياسية رخيصة من خلال صرف نظر الرأي العام عن قضايا معينة, ولكن ذلك لا يمنع وجود اسباب اندلاع الأزمات من إهمال وفساد والركون لرد الفعل والتواكل والقدرية وغياب ثقافة التعلم من الأزمات والكوارث, بالإضافة إلي الافتقار إلي رؤية علمية تقوم علي استقراء الواقع والتنبؤ بحدوث ازمات في المستقبل من خلال آليات الانذار المبكر الذي يمكن الإدارة من تلافي وقوع الأزمات أو التخفيف من أثارها السلبية علي أقل تقدير. ومع تسليمنا بوجود نظرية المؤامرة في حادث بورسعيد المروع, وسعي أطراف محددة لإحداث هذه الأزمة لخلق حالة من الفوضي وتصدير أزمات متتالية للسلطة الحاكمة لتأليب الشعب عليها, فإن معطيات حدوث هذه الكارثة كانت تعشش في أركان منظومة كرة القدم والمؤسسة الأمنية, فقد كشفت التحقيقات المبدئية عن وجود تقصير واضح من الجهات والمؤسسات المرتبطة بمسابقة كرة القدم بداية من المجلس القومي للرياضة الذي افترض وجود مناخ موات للعب المباريات ولم يتأكد من ذلك واكتفي بتقارير مشبوهة عن عدم وجود مخاطر لاستمرار الدوري العام, وكذلك التقصير المخزي لاتحاد كرة القدم الذي لم يتأكد من صلاحية الملعب بمخارجه ومداخله وترتيبات الدخول والاضاءة وغيرها, وكل حرص الاتحاد انصب علي لعب المباريات والتركيز فقط علي حقوق البث المالية والاعلانات والاستماتة علي عدم مس تعاقدات الرعاة وليتهم اهتموا بسلامة اللاعبين والمشجعين بنفس القدر. وهناك ايضا تقصير واضح من جانب النادي المنظم للمباراة ولادارة الاستاد المشئوم الذي اقيمت عليه المباراة, وكذلك محافظ الاقليم واجهزة المحافظة, اما قمة الإهمال الجسيم والتقصير المشبوه فهو من اجهزة الأمن المسئولة عن تأمين المباراة, واظهرت فشلا ذريعا في الادارة الأمنية للمباراة ولم تقرأ اشارت الانذار التي حملتها معلومات استخباراتية قبل المباراة, وكذلك الفشل الامني اثناء المباراة ناهيكم عن الاداء الكارثي والاختفاء المشبوه لعناصر الامن بعد المباراة مباشرة وهذا التحليل يوضح لنا أن كل الملابسات التي احاطت بالحدث شكلت بيئة نموذجية وبنية ازموية لكارثة بكل ابعادها, اي غابت المبادرة الإيجابية والتحكم في الحدث, بينما حضرت ردود الفعل السلبية الصادرة عن اناس ومؤسسات تحركها الأحداث وغرقوا في مستنقع الفساد والجمود الاداري والاهمال والنظرة الآنية في غياب المسئولية المهنية والامانة الوطنية. والخلاصة هي أن وفاء الشعب وحكومته لدماء أبرياء مذبحة بورسعيد يكون بسرعة القصاص العادل, والتعلم المجتمعي والمؤسسي من هذه الكارثة بإنشاء منظومة إدارة أزمات علي مستوي مصر بإنشاء مركز قومي لإدارة الأزمات وتمثل فيه كل الجهات وأن يرتبط بمراكز فرعية في الهيئات والمؤسسات, وتزويد هذه المراكز بفرق عمل مدربة وقواعد بيانات واجهزة ومعدات, مع تمكين ادارات هذه المراكز من خلال منحها سلطات التدخل السريع لمنع وقوع الأزمات بالإنذارات المبكرة التي تحقق الاجراءات الوقائية أو من خلال الحلول السريعة اي علاج المواقف والازمات الطارئة, واستخلاص الدروس والعبر منها حتي لا تتكرر ونمنع نزيف أغلي مواردنا البشرية, ورحم الله ابناءنا وأن يحشرهم في زمرة الشهداء وحسن اولئك رفيقا. أستاذ إدارة الموارد البشرية بجامعة حلوان