طيب هذا الشعب العظيم, طيب جدا, أقف في الطابور الطويل أمام لجنة الانتخاب, أشعر بشحنة الأمل التي تحوط الناس, وكأنهم يبحثون عن ومضة في وسط الظلام, وكأنهم يتوقون إلي إشراقة تخرجهم من اكتئاب قومي ألم بهم, وحزن علي ثورة تختطف منهم. يلفت نظري أنه لاتوجد سيدة واحدة في الطابور أو لايوجد طابور للسيدات, قلت لعلهم لايستيقظن مبكرات, ولكنني فهمت من الحديث الدائر حولي أن هناك لجانا مخصصة للسيدات, قلت في نفسي لقد ظهرت بشائر الدولة الإسلامية حتي قبل الاقتراع, أستمع بشغف لتحليلات الناس الطيبين, أتعلم منهم, وأشاركهم الحديث علي استحياء, أنهم يتنسمون رائحة الحرية, ويبدو الأمر غريبا عليهم, فهم ينظرون إلي أنفسهم والكعكة في أيديهم وكأنها عجبة, المشهد كله عجبة, فهي لحظة نادرة خارج سياق الزمن, حيث تفرعن عليهم الحكام منذ فجر التاريخ, وها هم اليوم يختارون الحكام. اتنبه من تأملاتي علي رجل طيب يتوجه لي بالكلام ماتروح في طابور كبار السن ياأستاذ أسأله مستمسكا بشباب ولي منذ عقود, هو طابور كبار السن يبدأ من سن كام؟يرد أحد الشباب علي سؤالي ضاحكا من فوق الأربعين يرجع إلي صاحب الاقتراح ياعم روح أقول له طيب خلوا لي مكاني لو رجعوني تاني يرد علي بتلقائية ضاربا آخر أمل لي للهروب من تصنيف المسنين يرجعوك مين, ياعم روح. أروح. وأجد الطابور أقل طولا, ويقابلني من يرشدني إلي اللجنة بأدب ملحوظ, غير معهود في من يرتدون اللباس الرسمي أو من يمتلكون أي سلطة, أقول له رقم اللجنة فيوجهني بوضوح, تقابلني موظفة بابتسامة, أخبرها برقمي في الكشوف والذي عرفته مسبقا من خلال اتصالي بدليل التليفون, فتخرجه في لحظة, وتطلب مني التوقيع. أضع الأوراق في الصندوق وأشعر بالراحة فلقد قمت باختيار من اعتقد أنهم الأصلاح لبرلمان مصر. أتأمل المشهد كله, نحن نستطيع أن نكون متحضرين, بالاستعلام الهاتفي, وتقسيم اللجان, وتنظيم الطابور, وابتسامة الموظفة, وإرشاد المسئول, وإشراف القاضي. نحن نستطيع, فلماذا لانكون. الشعب الطيب يتعاون ويتجاوب ويشيد بالتنظيم, ويغض الطرف عن الأخطاء والهنات, بل والسقطات, ويتلمس الأعذار, فلماذا لانحافظ علي المشهد حتي لايبدو كل ماحدث غريبا وكأننا يتامي والانتخابات كعكة عجيبة في أيدينا. القاهرة الثلاثاء29 نوفمبر2011, أكتب أستقل المترو من محطة الشهداء( حسني مبارك سابقا) في طريقي إلي أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا بشارع قصر العيني لحضور اجتماع, عادة ماأترك المترو في محطة سعد زغلول, قررت النزول في محطة السادات حيث ميدان التحرير. بمناسبة الأسماء, دعني أحكي لك هذا الخاطر, في كل بلاد الدنيا عندما تتم تسمية المحطات( أو الميادين, أو الشوارع) بأسماء الزعماء أو الرؤساء, فإنه يتم ترتيب الأسماء بتتابعها التاريخي, بمعني, أن تبدأ محطات خط المرج حلوان بعرابي, وسعد زغلول, مرورا بجمال عبدالناصر, وأنور السادات, وأخيرا حسني مبارك. هذا الترتيب يتيح للناس متابعة المحطات, وتوقع المحطة التالية حتي لايضطروا لحفظها عن ظهر قلب. الجشع أو النفاق فرض ترتيبا عشوائيا للمحطات, حيث سميت أكبر المحطات باسم رئيس البلاد وقتها, والتي تماثلها في الكبر والأهمية باسم من عينه نائبا ومهد له الطريق للحكم, ولاعزاء للأصول والقواعد والأعراف, ولكننا شهدنا عبرة الزمن, فمن استأثر بأكبر المحطات لإسمه عاش ليشهد اسمه يرفع من عليها, ليوضع عليها اسم الشهداء الذين أسقطوا حكمه. في التحرير ينزل معي شباب كثيرون, ويصعد كثيرون, قلت لعلهم يتبادلون الذهاب إلي الانتخابات الممتدة لليوم التالي, أشتري جريدة تشيد بعرس الديمقراطية, أشهد الخيام المنصوبة في وسط ميدان يلفه الحزن ويسوده الهدوء, وكأن الكل يراجع نفسه ويلتقط أنفاسه, هنا سال دم الشباب الذي مازال معلقا في رقاب هذه الأمة حتي تقتص لهم هؤلاء الشباب فجروا الزلزال, ونزحوا مياه السياسة الآسنة, غرسوا مكانها بذرة الحرية, ورووها بدمائهم الزكية. خطاب أمير الشعراء لشباب ثورة19 في مناسبة افتتاح البرلمان بعدها, يصلح تماما لتوجيهه شباب ثورة11 في مناسبة انتخابات مجلس الشعب بعدها, كأن قرنا كاملا من الزمان لم يمض. قل للشباب اليوم بورك غرسكم دنت القطوف وذللت تذليلا. حيوا من الشهداء كل مغيب وضعوا علي أحجاره إكليلا الاسكندرية الخميس1 ديسمبر2011, أكتب اختار الشعب, واستجاب لنداء الضمير والواجب, وربما لمناشدة شوقي التي مضي عليها مايقرب من تسعين عاما. ناشدتكم تلك الدماء زكية لاتبعثوا للبرلمان جهولا اكتمل المشهد الحضاري, وجاءت نتيجة الانتخابات, واختار الناس ممثليهم بإرادتهم الحرة, وعلينا أن نحترم هذا الاختيار ونتوحد حوله, اتفق توجهنا الشخصي معه أو اختلف, أليس مفهوم الديمقراطية هو حكم الأكثرية, أو حكم الشعب لنفسه. لقد نجح من كان له الرصيد الأكبر من الخدمات عند الناس البسطاء والمحرومين والمهمشين, فاز من أحسن تنظيم صفوفه واستكمل بنيانه, جاء من خاطب البسطاء في الشارع بلغة هي الأقرب لقلوبهم, وتعلقوا بالأمل أن تتحقق مطالبهم, فهل نعي الدرس؟ خطونا الخطوة الأولي في طريق الألف ميل, ويجب ألا تغيب عن أعيننا ووجهتنا ومبتغانا, فمطالب الشعب بسيطة وواضحة, أعلنها في ثورته في يناير من بداية العام, فهل يحقق البرلمان الذي انتخب في ديسمبر من نهاية العام مطالب الشعب الطيب التي تتلخص في الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية؟ اللهم انصر مصر, وحقق مبتغاها, واحفظ شعبها الطيب من كل سوء. جامعة الإسكندرية