تمثل الأحكام الدستورية والقانونية, والمرجعيات الفكرية والقيم الثقافية والأخلاقية مدخلا أساسيا لتأسيس أي تجربة سياسية ديمقراطية. وكل هذه المرجعيات وغيرها تضبط نظريا أسس كل تجربة سياسية وتشرع لمختلف ممارستها في إدارة شئون الدولة. لكن تبقي المسألة الديمقراطية حبيسة هذه المرجعيات النظرية المجردة إذا لم تستند إلي آليات ومؤسسات مدنية حديثة لتفعيلها واقعيا. ومن أبرز هذه الآليات: الانتخابات والأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والنقابية. قد لا يكون هناك خلاف في أن وجود الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بشكل عام, ليست مجرد مسألة كمية أو عددية, وإنما هي أيضا مسألة كيفية أو نوعية, إذ تربط أولا, بمستوي درجة الوعي والنضج السياسي والفكري والتنظيمي لهذه الأحزاب والمنظمات, وثانيا: بمدي فهم طبيعة المرحلة التاريخية للمجتمع العربي ومدي استجابتها إلي مختلف التحديات الداخلية والخارجية للثورة الراهنة. أي مدي قدرة هذه القوي علي إعادة تشكيل بنية المجتمع ومؤسساته السياسية والاجتماعية والثقافية التي تضمن تفعيل الأسلوب الديمقراطي وفق المعايير الدولية المعروفة. وثالثا, فإن أي عملية تغيير سياسي أو اقتصادي ثوري يشهدها أي مجتمع تحمل معها عدة احتمالات في عملية إعادة تشكيل مؤسسات الدولة وفق الحالة الثورية الجديدة. وإعادة تأسيس منظومة قيمية وسلوكية جديدة حول آليات المشاركة في السلطة السياسية. كما تنتج عنها شبكة من التوازنات والتحالفات الجديدة بين القوي السياسية حسب تنوع مرجعياتها الفكرية والأيديولوجية واختلافها, وهذا الاختلاف يصل أحيانا إلي مستوي التناقض خاصة بين الحركات الإصلاحية( المحافظة) والحركات الثورية والتقدمية حول أهداف هذه الثورة. من الطبيعي ألا يكون التعامل مع المفاهيم موحدا لتعدد زوايا النظر للموضوع المطروح وتعدد وجهات النظر فيه, وخاصة إذا كانت هذه المفاهيم ذات أبعاد مزدوجة فلسفية وسياسية في آن, وجامعة بين المثالي والموضوعي مثلما هو الأمر بالنسبة إلي المواطنة والديمقراطية لذلك فإن دراسة العلاقات بينهما ضرورية بصورة خاصة علي صعيد بلدان العالم الثالث ومن ضمنها الأقطار العربية. فالمواطنة بوصفها قيمة حضارية وإنسانية, أقرت حق الفرد في المشاركة والحضور الفعلي في مؤسسات الدولة الحديثة, ومع الحداثة السياسية, أصبحت المواطنة تعني المساواة المدنية والقانونية بين مختلف أفراد المجتمع, وأساس الشرعية السياسية للدولة التي تتجسد في مفهوم سيادة الشعب. كما تقضي أيضا التمتع بحق المشاركة في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في تصريف جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما انه من خاصيات المواطنة الربط بين مختلف أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فمن غير الممكن عمليا أن يحقق المواطن حاجياته في الحقل الاقتصادي مثلا, ويكون خاضعا إلي نظام سياسي استبدادي, أو يكون في حالة تبعية إلي الأخر. فالاستقلال السياسي للدولة يضمن توفير الشرط الأول للاعتراف بهذه الحقوق وصيانتها. في ظل منظومة قيمية كهذه لا يمكن الفصل بين الكرامة وحقوق الإنسان, باعتبار أن الأولي جوهر الثانية. وبالتالي لا قيمة للمواطن في وطن يفتقد فيه إحداهما أو كليهما إلي الحرية, لأنه في انتقاص حرية أحدهما انتقاص من مبدأ المواطنة ذاته. لقد تميز نظام الحكم في الوطن العربي بالاستبداد والظلم, وقامت السلطة السياسية فيه بمزج جميع القوي السياسية والمنظمات الاجتماعية في المجتمع ورث عن الاستعمار نظاما سياسيا يقوم علي أساس الشرعيات التقليدية في الحكم مثل: نظام القرابة والملل والطائفية بمفهومها العام, فغابت بذلك معها فاعلية مؤسسات المجتمع المدني, إذ فقدت هذه المؤسسات, إن وجدت, استقلاليتها عن جهاز الدولة, بل تحولت شيئا فشيئا إلي إحدي آلياتها من أجل الهيمنة علي المجتمع, إنها مؤسسات مدنية لا تقوم علي ركائز من حرية التعبير وحق المواطنين في تشكيل جمعياتهم ونقاباتهم وأحزابهم كحقوق أساسية للإنسان. ولكنها تقوم علي تسامح الدولة معها كمؤسسات اجتماعية تعمل في ظل هيمنتها في المجالات التي تحددها, وبالأسلوب الذي يقرره القانون دون أن يكون لهذه المؤسسات حقوق وحريات أصيلة مستمدة من مصادر تشريعية أسمي من تشريع الدولة ذاتها, أي من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. إن بناء أنماط جديدة للعلاقات السياسية والاجتماعية والقانونية لا يمكن أن يتحقق إلا من منطلق فهمها لجذور هذه العلاقات التي تعود إلي ثقافة المجتمع وتركيبته البنيوية وظروف حياته عامة.