يخطيء من يظن أن الدول الاقتصادية الكبري خالية من الظلم الاجتماعي ومن الفقر ومن المشردين, ويخطيء من يظن أن العولمة بمعني تشابك المجتمعات وتداخل الأسواق تؤثر وحسب من أعلي إلي اسفل أو من الأقوي اقتصاديا الي الأضعف تقنيا ومجتمعيا, ويخطيء أيضا من يعتقد أن بلادنا المهمومة بمستقبلها والواقعة تحت ضغوط شتي لايمكنها أن تقدم نموذجا ذا صبغة عالمية في التغيير والتطور السلمي. فهذه الظنون الخاطئة جميعها سقطت بامتياز خلال الاشهر الستة الماضية, وبات علينا أن نشعر نحن المصريين والعرب بقدر أكبر من الثقة في أنفسنا ونبعد عن بلادنا وشعوبنا ذلك الشعور الواهم بأننا خارج التاريخ, وأن نتطلع إلي المستقبل لبناء نموذج ذاتي يتوافق مع تراثنا وهويتنا وتاريخنا الطويل. ولننظر معا إلي الاحتجاجات الشعبية في الولاياتالمتحدة وبلدان أوروبية عديدة وتقودها حركة احتلوا وول ستريت, وهي حركة تشكلت في السابع عشر من سبتمبر الماضي وحاولت أن تستنسخ نموذج الثورة الشعبية المصرية كما جرت في ميدان التحرير في القاهرة مطلع هذا العام وانتهت باسقاط نظام مبارك والبدء في حالة حراك سياسي واجتماعي لم تعهدها مصر في السابق ومن قبل كانت هناك حركة ميدان الحرية في وسط العاصمة الاسبانية مدريد بداية من15 مايو الماضي والتي استمرت عدة اسابيع تطالب بتغيير السياسات الاقتصادية والقضاء علي البطالة وتوفير فرص العمل للأجيال الشابة. وهكذا اتبعت الحركتان احتلوا وول ستريت بنيويورك وميدان الحرية بمدريد الأسلوب ذاته الذي اتبعته تونس ومصر الثورة, حيث احتلال ميدان وجعله نقطة تمركز لكل الغاضبين ومقرا للحركة ونقطة جذب للوافدين الجدد الذين يتشاركون مع منظمي الاحتجاج في أهدافه الكبري. ويلاحظ المرء الكثير من الأمور الرمزية ذات المغزي, فمنطقة وول ستريت هي منطقة المال والأعمال, ومقر لكثير من الشركات العملاقة وإدارات البنوك الكبري, وهي رمز لسطوة الرأسمالية المتوحشة, وحين يحتلها المتظاهرون الغاضبون فهم بذلك يحققون هدفين معا, الأول لفت الانظار لمطالبهم وإدانتهم لهذا المجتمع الرأسمالي الخالي من المشاعر الانسانية, والثاني التأثير علي أداء هذه الشركات والبنوك التي تعد المسئول رقم واحد للأزمة الاقتصادية التي تعصف بالاقتصاد الامريكي منذ ثلاثة اعوام. ويتصل بهذه الرمزية كون الصورة الشائعة عن مجتمع وول ستريت أنهم مجتمع الاغنياء والاكثر كفاءة وإبداعا في العمل, وأنهم الاكثر رقيا في الإدارة, ومن ثم يصبح طبيعيا أن يكونوا الاغني مقارنة بغيرهم. لكن هذه الصورة وفي ضوء الاحتجاج الجماهيري تبدلت, إذ أصبح هؤلاء هم الأكثر جشعا والأكثر هروبا من تحمل المسئولية الاجتماعية تجاه باقي ابناء المجتمع, والأكثر تجاهلا لمسئوليتهم ودورهم في الأزمة الاقتصادية العالمية. الرمزية الثانية وهي الأكثر صلة بطبيعة العولمة الحاكمة لحركة العالم المعاصر وتتضح في قدرة الحركة علي أن تكون عالمية, فقد استجابت لدعوتها بأن يكون يوم الخامس عشر من اكتوبر يوما عالميا ضد الظلم الاجتماعي وضد الرأسمالية المتوحشة أكثر من80 مدينة كبيرة حول العالم, حيث سارت المظاهرات رافعة الشعارات ذاتها, ومعبرة في الآن ذاته علي أن المشكلة العالمية لاتحلها إلا سياسات عالمية تشاركية. السمتان الرمزيتان معا تفسران تلك القناعة التي فرضت نفسها في تحليلات كبار الاقتصاديين الأمريكيين بأن مايحدث هو مجرد بداية وليس نهاية, لكنها بداية مثيرة وتفرض البحث في كثير من البديهات التي عاش عليها المجتمع الامريكي زمنا طويلا, مثل الدور الريادي الذي يلعبه الاغنياء وهل تجب معاقبتهم علي نجاحهم أم فقط دفعهم الي دفع مساهمة اكبر لحماية التجانس الاجتماعي في البلاد. هكذا بدأت الحركتان الأمريكية والاسبانية في مواجهة الظلم الاقتصادي الواقع علي الغالبية العظمي من الشعب, وضد كل السياسات التميزية التي تؤدي الي التفاوت الرهيب في الدخول, وضد البطالة الخانقة التي تجبر ملايين الشباب علي التسكع بدلا من العمل والانتاج والحركتان تأثرتا واستفادتا من شبكات التواصل الاجتماعي في التعبير عن الذات وإطلاق الشعارات وتنظيم المناظرات المفتوحة بلا قيود حول مايجب أن تحققه الحركة. الشيء الوحيد الذي يميز حركات الربيع العربي أنها حدثت وتحدث في بلدان لا تعرف الديمقراطية ولا ثقافة الاختيار وتقع تحت طائلة الاستبداد والقهر وهدر الموارد وخفوت الحريات. أما حركة ربيع الغرب والولاياتالمتحدة فتحدث في ظل نظام لايشكك احد في ديموقراطيته, ومن هنا تبدو المعضلة الكبيرة أنه إذا كان الربيع العربي يتطلع الي الديموقراطية وانهاء الاستبداد وإقامة عدالة اجتماعية, فماذا تريد حركات الاحتجاج الامريكية؟.. الاجابة ليست عسيرة وفي ضوء الشعارات التي رفعت وتطالب بالمساواة وانهاء التمييز الاقتصادي وأن يتحمل الاغنياء النصيب الاكبر من عبء إعادة رسم السياسات الاجتماعية, تبدو هذه الحركات غير مناهضة للديموقراطية, بل تعمل علي إعادة انتاج نموذج جديد منها يراعي الابعاد الاجتماعية والحقوق الاقتصادية للغالبية الساحقة من الناس. العالم إذا يواجه عملية إعادة بناء ذاتية قوامها تحقيق أكبر درجة ممكنة من المساواة والتقارب بين الطبقات الاجتماعية, ومراجعة سياسات المؤسسات الاقتصادية الدولية وإشاعة مساحة ديموقنراطية في صنع القرار الدولي المتعلق بالبيئة والتجارة بين الدول.