أثار مقال (الثورة الرقمية، ماذا عن الغد)، ردود فعل أصنفها بين استفهامية وتعجبية، وأبدأ بالثانية، فتوضيحها يجيب، ضمنيًا، على التعقيبات الاستفهامية، هل يمكن للثورة الرقمية أن تتنبأ بما سنفعله فى الغد؟! دعونا نبدأ من الطقس الذى أصبحت نشرته ضمن أولويات المشاهدة والتتبع، بل وصارت، دون وعى منا، تحدد أى الملابس نرتدي، هل هناك حاجة لارتداء المعطف الثقيل لتفادى ريح شمالية غربية باردة، وإذا كانت مصحوبة بأمطار سارعنا بوضع المظلة فى حقيبة العمل، حتى لا ننساها صباحًا، وفى الربيع نتحسب لأيام تهب فيها رياح الخماسين، هذا خلاف ضرورة النشرة الجوية لشركات الطيران والملاحة وكذلك المسافرين، لاتخاذ الاحتياطات اللازمة. يعتمد الخبراء فى التنبوء بالطقس على بيانات تاريخية عن المناخ وتغيراته على مدار فصول السنة لأعوام سابقة تدمج بواسطة نماذج رياضية، برامج محاكاة، مع البيانات الحالية، درجة الحرارة، الرطوبة، الضغط الجوي، وغيرها، مما يعطى صورة مستقبلية للمناخ ترتفع دقتها كلما قل نطاق التنبؤ، فبيانات ثلاثة أيام مقبلة عن الطقس أعلى دقة منها بعد شهر أو شهرين، مما جعل من برامج المحاكاة أساسًا لعمل شركات النقل الجوى والبحري، وكذلك شركات التأمين لحساب مستويات المخاطر التى يمكن أن تتعرض لها الشحنات أثناء نقلها، وأيضًا فى تشغيل محطات الطاقة المتجددة، واختيار أنسب الأوقات لإجراء الصيانات اللازمة، ففى محطات طاقة الرياح تُنظم برامج صيانة محطات المحولات والتوربينات فى الأوقات ذات سرعات الرياح المنخفضة، مما يقلل من الطاقة المفقودة أثناء توقفها لإجراء الصيانات. ليس هذا فحسب، بل صار توقع اتجاهات الأسواق المالية، الأسهم، مؤشرات البورصات، أسعار العملات، والعقود الآجلة مثل أسعار النفط يعتمد بشكل رئيسى على التنبؤ المبنى على أسس علمية، كذلك فى الطب ومعرفة الحالة الصحية للمريض وما مر به من أمراض يُمَكِّنْ الأطباء من توقع الإصابة ببعض الأمراض، وبالتالى فإن الكشف المبكر عنها يخفف من آثارها إن لم يكن تلافيها، من هنا تنمو استخدامات برامج الذكاء الاصطناعى فى كل نواحى الحياة، فطالما هناك بيانات تاريخية وبرامج محاكاة، يصبح توقع المستقبل مرهونا بالضغط على زر الحاسب الشخصى لمعرفة ما لم يحدث بعد. وما يحدث فى التنبوء بالطقس يمكن أن يسرى على البشر، وبحد قول ستيفن بايكر مؤلف كتاب الرقميون (الأشخاص الوحيدون الذين يستطيعون فهم معطياتنا التى نتركها وراءنا هم علماء الرياضيات، وعلماء الكمبيوتر، والمهندسون، إنهم الأشخاص القادرون على تحويل بياناتنا وتصرفاتنا إلى معطيات رقمية تتولى أجهزة الكمبيوتر فرزها وفهرستها ورسم خرائط بيانية عن حياتنا الماضية، وتوقع ما سنفعله مستقبليًا عبر برامج محاكاة معقدة تتعامل مع الآلاف، بل الملايين من المتغيرات). فى العام الماضى تعرض مارك زوكربيرج، الرئيس التنفيذى لشركة فيسبوك، لضغوط من جانب الكونجرس الأمريكى على خلفية ما عُرف بفضيحة تسريبات فيسبوك واختراق البيانات الشخصية لملايين المستخدمين وتحليلها بواسطة شركة كامبريدج أناليتيكا، الأمر الذى أدى إلى استقالة مديرها التنفيذى آلكسندر نيكس آنذاك، بعد اكتشاف استخدام الشركة بعض هذه البيانات لتهديد سياسيين ومشاهير، والحصول على مبالغ مالية منهم مقابل صمت الشركة، هذا خلاف استخدام البيانات فى معرفة توجهات الناخبين والانتماءات الحزبية مع التركيز على أصحاب الصوت المتذبذب، لم يحسموا اختياراتهم بعد، وبالتالى انتقاء الرسائل والإعلانات الموجهة إليهم بهدف تغيير انتماءاتهم، هذه نماذج حقيقية ومتنوعة للتنبؤ بالمستقبل علها ترد شيئًا من تعجب، كيف يمكن توقع أفعالنا المستقبلية التى صارت نتاج هضم برامج المحاكاة لذكرياتنا وماضينا.