أتذكر حديثًا دار بين والدتي، يرحمها الله، والسيدة نادية الغطريفي.. صديقتها العزيزة.. سألتها أمى بعد سماع أغنية أم كلثوم «أنت عمري» عن رأيها فى الأغنية، فقالت والله ليست مثل «الأطلال».. «الأطلال» أحلى وأنت عمرى لا تضاهى تميزها ورقيها وعمق نغماتها.. وتبادلتا حديثًا يعكس فكر ذلك الزمن الجميل وكيف يتم اختيار الكلمة بعناية فى الستينيات وثقل المعانى وتعقل الموسيقى فلا تميل إلى صخب الآلات وإزعاج الطبلة والرق. وهذا لا يعنى أن «أنت عمري» التى اكتسحت الدنيا لم تنجح بل المعنى أن الوطن كان مليئًا بالحلو والتميز فى اللحن والكلمة والصوت أيضًا.. وكانت الأطلال تعبيرًا حيًا عن الكبرياء فى النغمة وسمو الكلمة.. إنها مصر الستينيات والسبعينيات وما قبلهما..! ومرت الأيام.. وإذا بموجة يسمونها أغانى ويعرفونها «بالشعبية» مثل «السح الدح إمبو» و«إيه الأساتوك ده» وغيرهما من السهل «الممتعض»..!. الممتعض هنا إشارة إلى رفض الإذاعة وقتها إذاعة أغنية «السح الدح إمبو» لرداءة الكلمات التى اعتبرها القائمون على الفن وحراس الفن.. أنها دون المستوى تمتعض لها طبيعة شعب أدمن الرقى وتذوق الفن الجميل.. ولا يطربه إلا أغانى الست وعبدالوهاب وفريد وحليم وفايزة وشادية.. التى أغانيها الخفيفة لا تجنح عن دلع لذيذ مقبول مهضوم على رأى الأخوة اللبنانيين. وتواصل سيل الأمواج الهادرة فى أواخر الستينيات التى تحمل معها بعض الأغانى الخفيفة الروح الثقيلة المعاني.. الخالية من التميز.. ومعها بدأ الفن ينزلق إلى دوامة السطحية وتفاهة الكلمة وشغب النغمة...ونرى اكتساح أغنية مثل أغنية «وحشنى الناس اللى بوشين».. وكذلك الأفلام... وأتذكر ونحن صغار فى سينما نادى المعادى شهقات استنكار من رواد السينما عندما تلفظت فاتن حمامة بلفظ لم يعتد المصريون سماعه إطلاقًا على الشاشات.. حيث قالت هامسة متبرمة بحياء «يا ابن الكلب» فى فيلم الخيط الرفيع وآسفة للكلمة... وهى نفسها قالت إنها ندمت على التفوه بذلك على الشاشة؟!! وكان ذلك فى بداية السبعينيات وبداية لانضمام السينما إلى دوامة خطيرة على العقل والروح المصرية... وأنا لست خبيرة فى التاريخ الغنائى ولا السينمائى ولكن أتذكر خطوطًا عريضة من عمرى فى زمن كان راقيًا سويًا معتدلًا فى طرح المشكلات الجادة سينمائيًا ووجود حلول لها والتنبيه على أخطار قد تصيب المجتمع وتحذر منها.. الآن نجد أفلامًا هى بمثابة أخطار مجسمة تصيب المجتمع بأعطاب أخلاقية تدميرية.. تحت مسمى الواقعية والإبداع والحرية.. وهى فوضى لكى يمرح القبح ويتمكن من النفوس والعياذ بالله؟!! ومعًا نتذكر فيلم السفيرة عزيزة لسعاد حسنى حيث تدور أحداثه فى حارة مصرية بسيطة وكيف كان حوارها عزيزًا ومحترمًا ولا تطويل فى الكلمة ولا انتقاء ألفاظ خارجة ولا هز وسط ولا صوت صارخ.. والآن نجد مسلسلًا تتعاجب به الممثلة بالتشوير بالأيادى والتسكع والتمايل يمينًا وشمالًا مع كل كلمة!. الحارة واحدة ولكن الأسلوب والسلوك تدنى كثيرًا... والمشكلة أن الفن مُعَلِّم.. وآه من تعاليمه الحالية التى تقشعر لها الأبدان.. أكيد بلا تعميم ولكن الغالب معيب!! ومن الأطلال وكبريائها إلى وحشنى أبو وشين.. يا قلبى لا تحزن.. ومن السفيرة عزيزة إلى مسلسل تدور أحداثه فى ذات الحارة أو نفس مستواها الاجتماعى تجد فنًا فى الأولى يسعدك وفى الثانية فنًا يصدمك.. لقد تطفل القبح على جدران الوعى المصرى عندما توارى أصحاب الفكر ودخل المجال أصحاب «القرش» وكأن توهج وتميز بلادى يزعج آخرين فأمطرونا بأسراب من طيور جارحة تجرح رقى ورقة القلوب التى تعودت على حلاوة فن الزمن الجميل... ومن بحر الفنون المصرية شرب العالم العربى كله من روعة الفن المصرى وإبداعاته وامتلأ صدره بالحب والاهتمام لكل ما هو وارد من مصر.. وأتذكر هنا حديثًا للكاتب محمد سلماوى قائلًا: إن مصر هى التى غزت فرنسا وليس العكس... وألقى سلماوى محاضرة بعنوان «بونابرت ومصر» الغزو المتبادل حول حملة بونابرت وأنها مثلما كانت غزوًا فرنسيًا لمصر فقد كانت أيضًا غزوًا مصريًا لفرنسا حيث تأثرت بسببها بكل ما هو مصرى فى الفنون والآداب ومن الشعر إلى الأوبرا.. إنها مصر الحضارة التى تم دفعها جهلًا أو عمدًا إلى دوامة القبح الكريه والخطير حتى على السلام الاجتماعي.. وأتذكر أننى منذ أكثر من عشر سنوات كتبت فى «الأهرام المسائي» عن جريمة أم قتلت طفليها لتعيش فى أحضان عشيقها.. والمقالة كلها تدور حول الدهشة من جريمة بشعة.. والآن تنوعت الجرائم وتكاثر أهل الشر ببجاحة وتوحش بعيدًا عن الإنسانية وقيمها السوية!! والآن لابد من صحوة لانتشال وإنقاذ قيمنا النبيلة من خطر الخضوع للقبح واستعادة انحياز المصريين للجمال والشهامة والقيم التى يتفرد بها المصرى منذ الأزل حتى فى الرسم على الحجارة وتليين الجبال بلمسات مصرية خالصة خاصة بجينات تعلن عن ذاتها زمان وحاليًا بكبارى وأنفاق وطرق بأيدى سواعد مصرية خصها الله بخصائص تفرد شعب له تاريخ وحضارة! ألم يقل أفلاطون ما من علم لدينا إلا وأخذناه عن مصر.. فالانتباه لتدهور المستوى الفنى يستدعى جدية المواجهة بأهل الثقافة بجد للحد من الإسفاف.. وتفعيل القانون الحامى للقيم والمبادئ بدون «وقاحة كلمة معلش» وكما نادى د.وسيم السيسى بضرورة تدريس القيم فى المدارس... وكتابة تعاليم الأخلاق الحميدة على الكراسات والكتب... إذا غاب القانون لعب الفار فى القلوب الناعمة واخترق تماسكها ورقة جدرانها لتنزف غلاً وقبحًا ووجعًا لا ينتهي!!