جاءت الدعوة لإجراء تعديلات على دستور 2014، لتكشف لنا مجددًا عن آفة لا تزال تشكل خطرًا كبيرًا على العملية الديمقراطية، وتمثل ردة على ما اكتسبه المصريون من حقوق. فبمجرد الإعلان عن الاتجاه لإجراء تعديلات دستورية، بدأت موجة عاصفة من الهجوم غير المبرر، وفرض الوصاية على الإرادة الشعبية، وارتفاع نبرة الصوت الزاعق، ممن يزعمون أنهم وحدهم الذين يفقهون فى الديمقراطية، ويعرفون مصلحة الشعب أكثر من الشعب نفسه، بل ويملكون الحجج والأسانيد التى لا يملكها سواهم. إنها الوصاية الممقوتة التى ملها الناس فى حكم الإخوان، ولن يقبلوا أن يعودوا إليها، أو يسلموا إرادتهم ومصائرهم لأشخاص وحركات تجيد «تعليب» مصالحها الخاصة، وترويجها تحت شعارات وهمية ومبادئ زائفة أثبتت الأحداث التى مر بها الوطن أنها لا تمثل سوى أجندات خارجية ومصالح ضيقة ونوايا سيئة.. فمتى يتعلم هؤلاء الدرس؟! لقد أثبت الحوار المجتمعى حول التعديلات الدستورية أن الأصوات التى تدعى الوطنية لم تعِ الدرس إطلاقًا، ويبدو أنها لن تعيه، فقد تعلمنا من التاريخ أن هناك أحداثًا لا يفسرها الواقع، وإنما يفسرها المستقبل، وأن هناك قرارات يتم اتخاذها فى لحظات فارقة من عمر الأوطان، لم يدرك المعارضون لها أهميتها وضرورتها إلا فيما بعد، وفى هذا السياق نعيد تذكير الجميع بما فعله بطل الحرب والسلام الزعيم الراحل أنور السادات عقب انتصار مصر فى حرب أكتوبر المجيدة، وكيف أصبح الرجل فى مهب ريح عاتية من الهجوم عبر ما قام به لاسترداد الأرض المصرية المحتلة وناله ما ناله من الأبواق المدعية والأصوات الزاعقة والمتاجرين بالشعارات، وصلت إلى حد الاتهام بالخيانة، ومضت الأيام لتثبت للجميع أن ما فعله السادات كان عين الصواب وأن صوته كان صوت الحكمة والعقل والقائد الذى يدرك جيدًا ما يفعل، ويرى ببصيرته مستقبلًا لا يراه غيره من التيارات التى لا تجيد سوى السباحة ضد تيار الوطن على طول الخط. فى رأيى أن ملف التعديلات الدستورية كشف عورات أولئك الذين مارسوا طوال السنوات التى أعقبت 2011 دورًا يختفى وراء قناع الوطنية، وأثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الديمقراطية التى يؤمنون بها ويتخذونها ورقة لمغازلة الغرب والارتماء فى أحضان المنظمات المشبوهة هى فى ظاهرها ديمقراطية وفى باطنها الديكتاتورية بعينها.. فكيف يلعبون اللعبة وكيف انكشفت لعبتهم؟ إن التعديلات الدستورية لم يجرَ اقتراحها أو تمريرها بليل أو فى غرف مغلقة، وإنما جرت مناقشتها فى ست جلسات حوار مجتمعى مفتوح للجميع، تمت دعوة القوى السياسية والأحزاب بقياداتها وشبابها للمشاركة فيه تحت قبة البرلمان، بيت الشعب وصوته وحصنه التشريعى، ولعل ما تابعناه من سير تلك الجلسات يكشف لنا أن الحوار الذى دار فى شأن التعديلات الدستورية كان مفتوحًا وبلا قيود ويجسد الديمقراطية فى أبهى صورها. رأينا معارضين لم يتم إقصاؤهم من هذه الجلسات، بل على العكس وجهت إليهم الدعوة وأدلوا بدلوهم وناقشوا ووافقوا على مواد ورفضوا أخرى دون أن يعترضهم أحد فيما اعترضوا عليه أو وافقوا. وأتعجب من بعض الأحزاب التى دعيت إلى جلسات الحوار المجتمعى ولم تحضر، ثم انطلق ممثلوها يزايدون ويدعون الوطنية والنضال فى الفراغ الذى صنعوه لمصالحهم الضيقة! إذن نحن أمام نخبة وهميةتحرق نفسها بتضارب المواقف وغياب الحجة وانتهاج مبدأ «خالف تعرف» لعدة أسباب: أولها: أن هناك نية مسبقة لرفض أى شىء يخص مصر ومستقبلها من قبل هذه التيارات التى تستعدى مصر وأهلها وتتحالف مع أعدائها فى الخارج من خلال علاقات مشبوهة وممولة ومدعومة من التنظيم الدولى لإخوان الإرهاب. ثانيها: أن دستور 2014 كان استثنائيًا ومؤقتًا وكل من شاركوا فى صياغته يعلمون ذلك علم اليقين، لذلك فالحديث عن تعديل بعض مواده وفقًا لما اقتضته ظروف وطن يبنى مستقبله ويواجه تحديات جسيمة ليس مفاجئًا أو ترفًا. ثالثها: أن المواد التى سيجرى تعديلها لن تمس ملف الحقوق والحريات الذى يمثل «سبوبة» الأصوات المستترة خلف شعار الحقوق والحريات والمتاجرة به. رابعها: أن التعديلات شارك فى الحوار حولها كل أطياف الشارع السياسى تحت إشراف البرلمان وفى رحابه دون أدنى تدخل من الحكومة. خامسها: أن الاستفتاء على التعديلات الدستورية هو عملية ديمقراطية خالصة بطلها وصاحب الحق الأصيل فى الموافقة عليها أو رفضها أصوات الشعب الذى يعرف جيدًا أين كانت مصر وكيف أصبحت وإلى أين تمضى. إذن.. فلماذا تحجرون على رأى المصريين وتطلبون الوصاية على إرادتهم؟ أيها المتاجرون والمزايدون والممولون والمتحالفون مع أعدائنا.. ارفعوا أيديكم عن هذا الشعب، واتركوه يقول كلمته فهو ليس قاصرًا، هذا شعب عندما يتكلم ينصت إليه العالم وعندما يعمل يصنع المستحيل.. ولكم فى 30 يونيو خير دليل.