يقول توم روزينتيل مدير مشروع تطوير أداء الصحفيين التابع لمركز أبحاث بوريسيرش الأمريكي.. المعني ببحث القضايا والاتجاهات التي تحدد ملامح المشهد العام في الولاياتالمتحدة والعالم. يقول هذا الباحث إن هناك ما وصفه بعدة أوهام أو أساطير جري تداولها في شتي أرجاء أروقة صناعة الصحافة المكتوبة في العالم بدون أن يكون لها أي وجود حقيقي أو سند حقيقي في الواقع, وهذه الأوهام أو الأساطير هي: الأسطورة الأولي اسطورة أن وسائل الإعلام التقليدية تخسر الآن باضطراد جمهورها لمصلحة وسائل الإعلام الجديدة فهناك عدد كبير يتوقع أن صعود نجم صحافة الانترنت سيعني أن المؤسسات الصحفية الكبري ستخسر حتما قراءها, وذلك لسبب بسيط للغاية ألا وهو أن الوسائل التكنولوجية التي تتمتع بها صحافة الانترنت ستحطم تحطيما الهيمنة التي تمتعت بها هذه المؤسسات الصحفية طويلا علي الأخبار. لكن هذا الاعتقاد لا يشكل بأي حال من الأحوال الصورة الدقيقة لواقع الصحافة المكتوبة العالمي. نعم نستطيع أن نقول انه بدأ فعلا موسم هجرة الناسمن الصحف المطبوعة إلي مواقع الانترنت فخلال العام المنصرم وفي الولاياتالمتحدة علي وجه الخصوص تفوقت شبكة الانترنت علي الصحف لتصبح هذه الشبكة العنكبوتية المنصة المعتادة بالنسبة للأمريكيين للحصول علي الأخبار وذلك طبقا لدراسة مسحية أجراها مركز أبحاث بو فقد كشف ستة وأربعون في المائة من البالغين في الولاياتالمتحدة- حسب هذا المسح الميداني- انهم يحصلون علي احتياجاتهم الخبرية من الانترنت مقابل أربعين في المائة يشبعون شوقهم للأخبار بالاطلاع علي الصحف, وذلك بالنسبة للأشخاص الذين يخصصون جزءا من وقتهم للإطلاع علي الأخبار ثلاث مرات اسبوعيا علي الأقل. ولكن المهم جدا في هذا الصدد يتمثل في أن الأغلبية الكاسحة من الباحثين عن الأخبار علي الانترنت في الولاياتالمتحدة يفضلون مواقع المؤسسات الصحفية والإعلامية الكبري التقليدية الراسخة مثل موقع صحيفة نيويورك تايمز وشبكة سي إن إن. هذا الكلام يعني ببساطة أن الصحف الكبري لم تخسر اجمالي قراءها بل علي العكس تماما فان عددا من هذه الصحف بدأ يشهد زيادة في عدد قرائه, أما الذي خسرته صناعة الصحافة المكتوبة فهو جانب لافت من عائداتها جراء تراجع الإقبال علي نسخها الورقية باختصار فان الأزمة التي تواجه المؤسسات الصحفية هي أزمة تقلص عدد القراء أو خسارة جمهور لأن القراء الذين يمتنعون الآن عن شراء النسخ الورقية ذهبوا إلي مواقع الصحف علي الانترنت. ولا يستطيع أحد أن يشكك في أن الصحافة المطبوعة فعلا تواجه أزمة عائدات حادة ففي الولاياتالمتحدة علي سبيل المثال هوت عائدات الصحف من الإعلانات بنسبة48 في المائة خلال الفترة ما بين عامي ألفين وستة والفين وعشرة. الأسطورة الثانية الأسطورة الثانية مفادها إن المؤسسات الصحفية العالمية ستحقق نصيبا كبيرا من كعكة الإعلانات علي شبكة الانترنت وذلك عبر ما تقدمه من مضمون خبري علي الشبكة العنكبوتية. لتفنيد هذه الأسطورة يقول روزينتيل إن ثمة دراسات تدحض هذه المقولة, فخلال عام ألفين وعشرة, تفوقت عائدات الإعلانات عبر الانترنت علي عائدات الصحافة المطبوعة وذلك للمرة الأولي علي الإطلاق. فقد وصلت قيمة اعلانات الانترنت إلي ستة وعشرين مليار دولار إلا أن جزءا ضئيلا من هذه الحصيلة الضخمة- حوالي خمس هذه العائدات أو أقل ذهب إلي المؤسسات الصحفية فيما ذهب نصيب الأسد من هذه العائدات- حوالي نصفها تقريبا إلي مواقع محركات البحث خاصة موقع جوجل. ففي الولاياتالمتحدة علي سبيل المثال, رغم أن حوالي نصف جمهور الصحف اصبحوا الآن يطالعون صحفهم المفضلة علي الانترنت فإن هذه الصحف لم تحصل من الانترنت إلا علي عائدات تبلغ حوالي ثلاثة مليارات دولار فقط فيما بلغت عائداتها من الطبعات الورقية حوالي ثلاثة وعشرين مليار دولار. ويقول خبراء الإعلام في هذا الصدد إن الصحافة المطبوعة ازدهرت طيلة عقود طويلة ببساطة لأن الأخبار كانت هي الوسيلة المثلي للوصول إلي الجمهور أما الآن ومع التغير الكاسح في المشهد الإعلامي العالمي فلم تعد الأخبار تشكل إلا جزءا يسيرا للغاية من وسائل الوصول للجمهور. الأسطورة الثالثة الأسطورة أو الوهم الثالث من الأساطير المؤسسية للفهم الخاطيء لواقع الصحافة المكتوبة في القرن الحادي والعشرين تقول إن المحتوي أو المضمون الذي تقدمه الصحف هو دائما وأبدا الملك المتوج كانت صحافة القرن العشرين تتبني مقولة مفادها أن من يود أن ينجح في عالم الصحافة المكتوبة فان عليه أن يقدم مضمونا صحفيا يشبع رغبات القاريء أي باختصار قدم للناس ما تريده لكن في صحافة القرن الحادي والعشرين فان هذا الأمر لم يعد كافيا فمفتاح سر نجاح أي مؤسسة إعلامية في القرن الحادي والعشرين هو أن يعرف أكثر من غيره سلوك الجمهور وليس من يقدم لهذا الجمهور المضمون الصحفي الأكثر شعبوية هكذا يقول خبراء الإعلام في الغرب حاليا. فقد اصبحت العبرة في هذا الصدد هي بفهم أي من المواقع علي الانترنت يزورها الناس وما هو المضمون الذي يحرصون علي مشاهدته وماذا يشترون ومن أي مناطق جغرافية هم.. باختصار فان هذه المعلومات الاستراتيجية ستتيح للمعلنين إمكانية استهداف المستهلكين من الأفراد ومن ثم فان من يملك هذه المعلومات يستطيع بيعها للمعلنين ويقنعهم بأن ينشروا اعلاناتهم لديه. وبالتأكيد فأن هذه النوعية من المعرفة السلوكية سوف تحصل عليها الشركات التكنولوجية بسهولة أكثر من المؤسسات الصحفية ولتوضيح هذه النقطة نقول ان شركة جوجل- صاحبة أكبر محرك بحث علي الانترنت- اصبح في مقدورها معرفة كل صغيرة وكبيرة عن كل زائر لموقع أي مؤسسة صحفية كبري علي الانترنت وذلك بصورة تفوق بشكل مذهل المؤسسة صاحبة الموقع نفسه, وذلك بفضل ما يمتلكه موقع جوجل من وسائل تكنولوجية تجعل في وسعه تتبع سلوك زائري المواقع ومن بين الوسائل التي يستخدمها جوجل في هذا الصدد برنامج الكتروني يحمل اسمDROID ويجري تحميله علي الهواتف المحمولة, وبرنامج جوجل كروم لتصفح الانترنت. ولعل هذا الأمر يفسر أمورا عديدة منها رغبة شركة أبل كومبيوتر العارمة في السيطرة علي قواعد البيانات التي تمر عبر أجهزة الآيباد, ولعل هذا الأمر يفسر أيضا لماذا أصبح موقع فيس بوك موضع حسد الكثيرين, ذلك ببساطة شديدة لأنه يعلم كل صغيرة وكبيرة عن سلوكيات وأمزجة المشتركين فيه وهو الأمر الذي يشكل بالنسبة له ثروة طائلة رغم أن الاشتراك فيه مجانا الأسطورة الرابعة الأسطورة الرابعة تقول إن الصحف في شتي أرجاء العالم تضمحل. في واقع الأمر فان هذه الأسطورة تنطوي علي ما هو مناقض للواقع فاجمالي توزيع الصحف علي مستوي العالم بأسره ارتفع باكثر من خمسة في المائة خلال السنوات الخمس الماضية كما أن عدد الصحف المطبوعة يتزايد. باختصار فان الصحافة المطبوعة تزدهر الآن في الدول النامية خاصة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية لكنها تعاني في الدول الغنية, أي أن صاحبة الجلالة مازالت شابة في العديد من مناطق العالم لكنها تبدو وكأن كبر السن قد نال منها في مناطق أخري. فعلي سبيل المثال فان العائدات الإعلانية لدي الصحف المطبوعة قفزت بنسبة ثلاثة عشر في المائة في الهند وبنسبة عشرة في المائة في مصر ولبنان حسب أحدث تقديرات في هذا الخصوص ولكن في المقابل فان عائدات الصحف هبطت في فرنسا بنسبة ثمانية في المائة وبنسبة عشرين في المائة في اليابان ولكن كيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ هذا الأمر يمكن تفسيره ببساطة بعدة عوامل منها: زيادة عدد المتعلمين في الأقطار النامية وارتفاع عدد السكان وتنامي معدلات النمو الاقتصادي وعدم وصول معدلات استخدام الانترنت إلي مستويات كبيرة في هذه البلدان. فعلي سبيل المثال فان عدد السكان في الهند ينمو بشكل كبير كما أن عدد المتعلمين يتزايدون, لكن ثمة نسبة هائلة من السكان تفتقر إلي وجود الانترنت في منازلها. وفي المقابل فان الصحف في الولاياتالمتحدة تعاني معاناة رهيبة لأنها تعتمد علي الإعلانات بنسبة خمسة وسبعين في المائة في الحصول علي عائداتها, وذلك مقارنة مع نسبة تتراوح بين ثلاثين وأربعين في المائة في دول أخري كثيرة تعتمد فيها صحف عديدة علي التوزيع. وهذا الأمر يعني أن الصحف الأمريكية هي من أشد صحف العالم تضررا بتراجع الحصيلة الإعلانية- إن لم تكن أشدها علي الاطلاق وهو ما يفرض عليها حتمية فرض رسوم علي استخدام مواقعها علي الانترنت الأسطورة الخامسة الأسطورة الخامسة من الأساطير المؤسسة للفهم الخاطئ لواقع الصحافة المطبوعة في العالم تقول إن حل أزمة الصحافة المطبوعة يتمثل في الإغراق في المحلية لقد كان شعار الإغراق في الأخبار المحلية بمثابة صرخة الحرب التي أطلقها خبراء المال في وول ستريت لتكون بمثابة نصيحة للصحف قبل خمس سنوات كي تتفادي تداعيات أزماتها المالية وكان مبرر هذه الصرخة بسيطا للغاية ويقول مفاده أنه في عصر الانترنت لا فائدة من منافسة وسائل الإعلام الكبري في الأخبار القومية والعالمية. لكن سرعان ما تبين أن الأخبار الشديدة المحلية عادة ما تعجز عن اثارة اهتمام عدد كبير من جمهور الصحيفة علي نحو قد يؤدي في نهاية المطاف إلي تراجع حصيلة الإعلانات فبدلا من الإغراق في المحلية فانه من الأفضل كثيرا تنويع المضمون ليكون ممثلا لرقع جغرافية أوسع نطاقا. كما تبين بالتجربة أن المعلنين علي الانترنت يمقتون الإغراق في المحلية, وهكذا فان الوقت يبدو أنه مازال مبكرا للتوصل إلي حلول جذرية يتفق عليها الجميع كي تخرج الصحافة المكتوبة في الدول المتقدمة من نفقها الراهن.